للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)]

قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:١٠].

الذين جاءوا من قريش كانوا من أسفل الوادي، والذين جاءوا من نجد كانوا من فوقكم، واليهود من الخلف، فأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إحاطة السوار بالمعصم.

ثم وصف الله حال المؤمنين بأبلغ صفة فقال: ((وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ)) أي: مالت وتزلزلت، حتى صار بصر المدهوش المرعوب الخائف لا يكاد يزول عن المكان الذي يأتيه منه الخوف، من أسفل الوادي ومن أعلاه ومن فوقه، فأبصارهم زاغت وصارت مصوبة تجاه مكان الخوف من المشرق والمغرب.

وقوله: ((وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)) يقولون في وصف الجبان: إذا استبدى خوف الجبان تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة صعد القلب حتى يكاد أن يخرج من مكانه ويصل إلى الحلقوم.

أي: أن القلوب كادت أن تصل إلى الحناجر من شدة الخوف والجبن والهلع.

وهكذا كان الأصحاب بين خوف وهلع، فالمؤمن منهم ينتظر أمر الله في رضا وطواعية، أما المنافق فينتظر سبباً ليقوم وينقلب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه.

ويقوم المنافقون فيأتون إلى ضعاف الأنفس وضعاف القلوب من المؤمنين فيخوفونهم، يصفهم الله تعالى في الآية: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:١٠] أي: بلغت ووصلت قلوب المقاتلين والمجاهدين إلى الحناجر؛ لشدة الهلع والخوف على أرضهم وعيالهم وأموالهم.

وقوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) كان المنافقون يقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢]، وكرر ذلك معهم ضعاف النفوس وضعاف القلوب، وظنوا كذلك، فعوتبوا وقيل لهم: أتظنون أن الله سيترك نبيه والمؤمنين؟! انظروا إلى من سبقكم فقد {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].

فالنصر مع الصبر، والصبر معه الفرج، ولذلك ورد الصبر في كثير من آي الكتاب الكريم، وخصص بسورة هي: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

فالمؤمنون مع صلاتهم وصلاحهم وتقواهم لا بد لهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الصبر، فقد قص الله علينا قصة لقمان عندما أمر ولده بالصبر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين له أنه ما من داعية إلا أصيب في نفسه، وأصيب في شيء عزيز عليه.