للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم)]

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:١٣].

قوله: ((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)).

هذه هي الطائفة المنافقة، الطائفة المظهرة للإسلام كذباً وزوراً، والمبطنة للكفر، فهي عندما وصلت الحالة في غزوة الأحزاب ما وصلت إليه، أعلنت هذه الجماعة المنافقة كفرها وقالت: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ)) وعادوا للاسم الجاهلي، وتركوا الاسم المحمدي المدينة النبوية الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام اسماً دائماً ليثرب.

فقوله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:١٣].

أي: اتركوا محمداً وأصحابه في الخندق وارجعوا إلى بيوتكم في المدينة.

أو: لن يكون لكم بعد اليوم في هذه البلدة مقام ولا استقرار ولا استيطان، فقد غلبكم عليها محمد وأصحابه فاتركوه واتركوها له، وإلا فستبقون ملاحقين من محمد وأصحابه، فأنتم إذا لم تموتوا في هذه المعركة فسيطالبكم في حروب ومعارك آتية، إذ أنصبته العداء فارس والروم وجميع سكان جزيرة العرب من العرب ومن فيها.

قوله: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ)) يثرب: اسم المدينة النبوية قبل الهجرة، وسميت باسم رجل من العماليق وهم سكان المدينة القدامى، وكان اسمه يثرب، ويثرب من التثريب، كما قال يوسف لإخوته عندما غدروا به وتآمروا عليه، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:٩٢] أي: لا ملام ولا عتب ولا مؤاخذة عليكم.

والتثريب مأخوذ من هذا المعنى، وهو فعل السوء الذي يستوجب المؤاخذة والعتاب.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً قال: (هي طابة، هي طابة).

وقال: (لا تقولوا: يثرب، هي طابة، هي طيبة، ومن قال: يثرب فليستغفر الله) حديث رواه الإمام أحمد في المسند عن البراء بن عازب.

فإذاً قال المسلم غلطاً وسبق لسان عن المدينة: هي يثرب، فليستغفر الله ولا يعد، إنما هي طابة، إنما هي طيبة.

والمدينة النبوية هي عاصمة الدنيا، وبها استقر الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت دار هجرته صلى الله عليه وسلم، ومنها انتصر الإسلام النصر العزيز الساحق في غزوة الخندق، وقبلها في غزوة بدر، وفي فتح مكة، وأصبحت بذلك عاصمة الدنيا جميعها، مما استحقت أن يقول النبي عليها الصلاة والسلام لأهلها: (المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو لم أكن من قريش لكنت امرأً من الأنصار).

وكان الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإنه منذ هاجر للمدينة أصبحت موطنه، ودار سكنه، وأصبحت مرقده وقبره صلى الله عليه وعلى آله، فهي داره مدة حياته إلى أن لقي الله، وهي داره إلى يوم البعث والنشور.