للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها)]

هاتان الآيتان لهما سبب، وسبب نزولهن أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر للمدينة وانتصر على أعدائه وأعزه الله، وأصبحت الجزيرة العربية تحت سلطانه وأمره ونهيه، رأين أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في شئون الدنيا ذا رتبة عالية، وبلغهن كيف تعيش، ملكات فارس والروم، وأردن أن يعشن عيشة الملكات، ونسين أن النبي عليه الصلاة والسلام عبد نبي آثر الفقر والمسكنة والحاجة عن رضاً منه وطواعية، وقد عُرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، وعُرض عليه أن يعيش نبياً ملكاً فآثر أن يعيش نبياً عبداً، يجوع يوماً فيصبر ويشبع يوماً فيشكر.

فعندما قلن ذلك وطلبن الحلي والحلل وأكثرن على رسول الله من هذا القول هجرهن شهراً كاملاً، وترك الدخول عليهن، واعتزل في علية من الدار، وشاع الأمر وذاع بين أصحابه، وخاصة عند أصهاره أبي بكر والد عائشة، وعمر والد حفصة.

في هذه الحال قال عمر كما في الصحاح: كنت أسكن العوالي -عوالي المدينة-، وكنت أتناوب أنا وجار لي الحضور والصلاة والاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بيوم، يوماً ينزل جاري فيجالس النبي عليه الصلاة والسلام ويسمع حديثه، وما نزل عليه من آي، وما سئل به، وما أجاب عنه، فيأتيني ويخبرني بذلك، ويوماً أنزل أنا فأسمع ذلك وأبلِّغه لجاري كما بلغني.

قال: وفي يوم من الأيام يأتيني بعد صلاة العشاء فيطرق عليَّ الباب طرقاً شديداً فأخرج إليه وأقول: ماذا هناك؟ قال: أمر عظيم! قال: قلت: هل غزتنا الروم؟ قال: الأمر أعظم من ذلك.

وكان شاع بين الصحابة أن الروم تريد غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غزته قريش وغطفان ويهود المدينة، فعجزوا عنه ورجعوا أذلة خائبين يجرون الخيبة والذل والهوان، فأرادوا أن يقوموا بذلك عنهم، هكذا شاع، وإن لم يكن لهذا أصل! فقال له جاره: الأمر أعظم من ذلك، طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.

وإذا بـ عمر ينتظر أذان الفجر، فيخرج إلى المسجد عند الأذان، وينتظر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وصلى بالمسلمين الفجر، وتركهم رسول الله عليه الصلاة والسلام وصعد العلية فتبعه عمر، وكان هناك غلام على باب العلية، فقال له عمر: استأذن لي على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فدخل الغلام ثم خرج وقال: ذكرتك له فلم يجبني، فذهب عمر وغاب ملياً داخل المسجد، ثم عاد فقال للغلام: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثم خرج وقال: ذكرتك له فلم يجب.

وإذا بـ عمر يعيش عيشة القلق والانزعاج ولا يعلم ماذا هناك، وكان قد دخل على ابنته حفصة فوجدها تبكي، وسمع بكاء أمهات المؤمنين، ووجد من الأصحاب في المسجد من يبكي، فقال لها: طلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري، فعاد وطلب من الغلام أن يستأذن له على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فخرج وقال له: استأذنت لك فلم يجب، فذهب عمر حزيناً مكروباً مغموماً، وجلس في المسجد كعادته في انتظاراته، وإذا بالغلام يناديه: يا عمر قد أذن لك رسول الله! فصعد عمر فسلّم فرد عليه السلام وسكت.

ونظر عمر في الغرفة فلم ير تحت رسول الله إلا حصيراً ومعه مخدة من ليف، وقربة ماء قد قدم عهدها، وإذا بـ عمر يقول: يا رسول الله! فارس والروم يعيشون في رغد من العيش وأنت تعيش في هذا الشظف، وكانت مشكلة رسول الله مع نسائه في نفس الموضوع، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً يجلس ويقول: يا ابن الخطاب أفي شك أنت؟ أولئك عجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.

فقال عمر: فاغفر لي يا رسول الله.

وأراد عمر أن يجعله يبتسم فقال: يا رسول الله لو رأيت زوجتي كيف أخذت تطلبني الرغد في المعاش، وتطلبني الزينة، وإذا بي أقوم إليها فأنهرها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما رأى تبسمه قال: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ قال: لا، قال: أتأذن لي أن أُخبر القوم؟ قال: إن شئت.

فأشرف عمر من العلية ونادى بأعلى صوته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فقال له عليه الصلاة والسلام: إن أمهات المؤمنين أكثرن عليّ في طلب الحلي والحلل وزينة الدنيا وليس عندي ما أُعطيهن، ولا أرغب أن يكون عندي ما أعطيهن، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر.

فنزل عمر ووجد أبا بكر فقص عليه القصة، ودخل كل منهما على ابنته فقال لها: لم تطلبين رسول الله ما ليس عنده؟ ونهر أبو بكر ابنته، ونهر عمر ابنته، وقال كل واحد منهما: ما شئتِ فاطلبيني ولا تطلبي رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وزاد عمر فقال لابنته: لا يغرك أن تكون جارتك أصبح منك وجهاً فقد سبق أن طلقكِ رسول الله وما ردّكِ إلا من أجلي، فإن طلقكِ هذه المرة فلا والله لا ترجعين أبداً.

فبقي رسول الله عليه الصلاة والسلام شهراً، وإذا به ينزل من العلية، وقد نزل عليه الوحي بهاتين الآتين، فذهب تواً إلى عائشة وكان قد أقسم أن يهجرهن شهراً، قالت له: يا رسول الله! أنا أعد الأيام ولم يمض من الشهر إلا تسع وعشرون يوماً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا وهكذا -أي: قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين يوماً- ثم قال لها: لم أحنث وقد أتممت شهراً، وكان شهري هذا تسعة وعشرين يوماً.

ثم تلا عليها هاتين الآيتين الكريمتين، وقال لها: شاوري أبويك قبل أن تختاري، قالت: أفيك أشاورهما يا رسول الله! فلن يختارا الطلاق، ولا والله لا شاورتهما، وإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، يا رسول الله، إنك ستطوف على نسائك وتخيّرهن كما خيّرتني فلا تقل لهن: إنك خيّرتني فاخترت الله ورسوله والدار الآخرة، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن سألنني سأخبرهن.

وإذا به يطوف على بقية نسائه التسع، على حفصة بنت عمر وعلى أم سلمة وعلى زينب بنت جحش وعلى ميمونة الهلالية وعلى صفية بنت حيي وغيرهن، فقلن كلهن: بل نريد الله ورسوله والدار الآخرة، فسرّ رسول الله عليه الصلاة والسلام أن اخترن الله ورسوله عن زينة الدنيا وزخرفها ومتاعها.