للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تابع تفسير قوله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)]

قال الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:٥١].

لا نزال مع أوامر الله في سورة الأحزاب في حقوق الزواج وآدابه، في مباحاته وممنوعاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:٥١]، أي: من زوجاته.

عندما طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم النفقة ولم تكن عنده نفقة غضب عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرهن شهراً كاملاً كما مر معنا، ثم بعد ذلك نزل ودخل عليهن، وخيرهن كما أمره الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٢٨ - ٢٩]، فعندما قال لهن ذلك اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد مضى كل ذلك.

ولكن بعد أن أبقاهن واخترن الله وما هو عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة والتقشف رضاً وطواعية أسقط الله عليه القسم بينهن فقال له: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:٥١] أي: تؤجل وتؤخر من تشاء فلا تقسم لها قسمة ولا تجعل لها يوماً إن شئت، وتؤوي وتضم إليك منهن من شئت.

قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:٥١] أي: من طلبت وأرادت منهن بعد أن عزلتها عنك وشئت العودة إليها مرة أخرى فلا إثم ولا جناح ولا ملامة عليك.

قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب:٥١].

أي: هذا الإرجاء والتأجيل أو التقريب والضم أمام طلاقهن وفراقهن هو أقر لأعينهن وأكثر سروراً لهن وأبعد عن حزنهن.

وقرار العين برودتها، ولن تكون كذلك إلا لشيء سار، وبالعكس إذا حزن الإنسان سخنت عيناه.

إذاً: كونهن يبقين زوجات لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع تقريبهن أو إبعادهن أو عزلهن أو ابتغائهن فذلك أقر لأعينهن، وأبعد ألا يحزنن ولا يأسفن وأن يرضين كلهن.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:٥١].

أي: الله أعلم منكن ومنكم ومن غيركن وغيركم بما في القلوب من الميل وعدمه ومن الحب والكراهة.

ثم قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:٥١] أي: عليماً بأحوالكن حليماً بكن في مغفرة الذنوب ورفع الدرجات والإحسان إليكن وإلى زوجكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

والرسول صلى الله عليه وسلم مع كون الله تعالى أباح له عدم القسم بين زوجاته، لكنه كان يقسم بينهن، وكان يؤدي لكل واحدة منهن ما للأخرى دون فارق بينهن، لكل واحدة ليلتها وكسوتها ومخدعها ونفقتها.

وكان عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح يقسم بينهن ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: هذه قسمتي فيما أملكه وأطيقه من النفقة والليلة والسكن واللباس وما إلى ذلك، فأنا أقسم بينهن بلا فارق، أما الميل القلبي فالقلب ليس بيدي، وكان ميله عليه الصلاة والسلام أيام خديجة لها وحدها، حتى إنه لم يتزوج معها ومكث معها ربع قرن، وفي أيام اجتماع النسوة التسع كان يميل لـ عائشة عن غيرها من بقية النساء.

وليس ذلك نزوة ولا شهوة، ولكن كانت عائشة رضوان الله عليها تمتاز عنهن بالذكاء البالغ وبالعلم الواسع، وبالفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرضيه، وفيما لا يرضيه وكانت عند أمره ونهيه، وكانت بنت أحب الناس إليه خليفته وأفضل الخلق بعد الأنبياء أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يشعر بهذا الميل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) أي: الميلان القلبي، وهذا معنى الآية الكريمة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:١٢٩] أي: لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء عدل القلب وعدل الميل والمحبة، وهذا الميل ليس بيد الإنسان بل هو بيد الله، ومع ذلك قال الله للزوج: إن كان عندك ميل لواحدة دون الأخرى فلا يكن هذا الميل سبباً لظلمها وعدم القسمة لها، وعدم أخذها لحقوقها، بحيث تبقى مائلة ضائعة، وكأنها معلقة لا مزوجة ولا مطلقة.

هذا الذي نهى الله عنه، وليس ما زعمه الزنادقة والجهلة أن الله أباح الزوجات ثم أمر بالعدل وحكم به، ثم قال: إنكم تعجزون عن العدل، ولذلك فلا زوجة ثانية فهي محرمة، نقول: هذا كذب على الله، وقائل ذلك مفتر عليه؛ لأنه قال ما لم يكن له أصل، وإلا سيكون قوله طعناً في الصحابة وطعنًا في النبي عليه الصلاة والسلام وطعناً في السلف الصالح، فكلهم تزوجوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً، وسيد البشر تزوج تسعاً.

وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم أكثركم أزواجاً).

وقال الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:٣]، قال علماؤنا ومفسرو الآية: إن الله لم يذكر الواحدة فقد ابتدأ بالثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فالأولى رخصة للضعاف من الرجال، الضعيفة مسئوليتهم، القليلة ذات يدهم، أما الرجال التامون رجولةً فالله يخاطبهم بأن يتزوجوا اثنتين فثلاثاً فأربعاً.