للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ظلم الإنسان لنفسه بتحمله الأمانة وعدم القيام بها]

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:٧٢] أي: امتنعن عن حملها شفقةً عن كونها تعجز عن حملها.

قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:٧٢] أي: الإنسان الأول آدم عليه السلام، عرض الله عليه الأمانة فقبلها، ولكنه ما كاد ينتهي ما بين الظهر إلى العصر وهو في الجنة إلا وقد ارتكب الخطيئة، فأكل من الشجرة المحرمة، واغتر بوسواس الشيطان هو وأمنا حواء.

فكان بهذا عاجزاً عن حمل الأمانة ظالماً لنفسه في قبوله للأمانة، وهو لم يستطع منذ الساعات الأولى تقبلها، ثم قد جهل في نفسه حقيقة هذه الأمانة ومسئولياتها وعظمة ما فيها مدى الحياة.

كان السلف يعيشون مئات السنين، وقد قص الله علينا قصة نوح وأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحكي التوراة والإنجيل عن أنبياء بني إسرائيل أنهم عاشوا مئات السنين، كذلك يؤكد ذلك إخبار الله تعالى في كتابه المهيمن على الكتب السماوية في قصة نوح في القرآن الكريم.

فقوله: (الإنسان) ذكرت هذه الكلمة بالألف واللام فهي وإن خص بها الإنسان الأول آدم عليه السلام، فإنما خصته لأنه كان مفرداً، ولكنها بعد ذلك عمت كل من يمكن أن يطلق عليه إنسان، فآدم إنسان وزوجته إنسان وأولاده وإلى يوم القيامة من ذكور وإناث كذلك أناسي، فحملها الكل.

قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢].

أي: ظلم نفسه بتحمل الأمانة وعجز عن تحملها، فآدم ارتكب ما ارتكب وغفر الله له كما أخبرنا ربنا جل جلاله، أما ولداه قابيل وهابيل فصنعا ما لا يزال القاتل منهما يتحمل الإثم إلى يوم القيامة.

كما قال عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فهو قد قتل روحاً ظلماً وعدواناً حسداً وتكبراً، وعلم الإنسان بعده القتل والظلم وإزهاق الأرواح بغير حق، فهو مع تحمله الأمانة ظلم نفسه فارتكب كبيرةً من الكبائر بقتل أخيه، وقطع رحمه حيث ارتكب معه ما لا يرتكبه عدو مع عدوه.

وعدد الناس اليوم في الأرض ما يقرب من أربعة مليارات من البشر، ومليار أو قريب منه هم مسلمون، والباقون بين وثني يعبد الحجارة ويعبد الخلق ويعبد الطبيعة ويعبد ماركس ولينين، وبين طبقة تعبد العزير والعجل، وطبقة تعبد عيسى ومريم.

والمسلمون حملوا الأمانة فيما زعموه، ومع ذلك هذا المليار من الخلق منهم من أصبح شيوعياً، ومنهم من أصبح اشتراكياً، ومنهم من أصبح ماسونياً، وما بقي من المؤمنين -وهم قلة- إلا من رحم ربك.

ولذلك قال الله عن المؤمنين الحق: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٣ - ١٤]، فهؤلاء وإن كانوا ينسبون إلى الإسلام فهم مع كفرهم بالله وارتدادهم وخروجهم من الإسلام أفواجاً كما دخل آباؤهم في الإسلام أفواجاً، عادوا فألغوا الأمانة كلها.

كذلك الأتقياء من المسلمين قد يعصون وقد يخالفون وقد يرتكبون، ولكن إذا سلمت لهم العقيدة، وإذا سلمت لهم الأركان الخمسة من الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج فهم على خير على كل حال، وما سوى ذلك، فإن الحسنات يذهبن السيئات.

فالإنسان المتحمل للأمانة قد حمل نفسه ما لا تطيق، كما رأينا الأولين وقرأنا عنهم في كتاب ربنا، وكما رأينا المعاصرين وقد غلب عليهم الخيانة في تحمل الأمانة، ومن هنا وصف الله الإنسان بظلم نفسه.

فقوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢] أي: كان جاهلاً بحقيقة ما تحمّل، كان جاهلاً أن من تحمل الأمانة يجب أن يحملها ما دام فيه عرق ينبض وإلى أن يلقى الله، فهو في صحوه ونومه، وهو في شبابه وشيخوخته، وهو في حضره وسفره، وهو في مرضه وصحته كان الواجب عليه أن يلتزم بهذا الذي احتمله والذي التزمه، ولكن لم يلتزم ذلك، بل كان ظالماً لنفسه، ومن هنا وصفه الله بأنه ظلوم كثير الظلم لنفسه؛ لأنه التزم شيئاً ولم يقم به.

فمن حين نصبح إلى أن نمسي وربنا يدعونا إلى أوقات معهودة نؤدي الصلاة فيها والوقوف بين يديه، مناجين قائمين راكعين ساجدين ذاكرين، ومن حين نصبح إلى حين نمسي وعلينا مسئوليات أنفسنا ولأزواجنا ولأولادنا ولمجتمعنا، ولعموم مسلمي الأرض، وعلينا واجبات كثيرة، من أهمها أن نعلن كلمة الله وأن نقاتل أعداء الله إلى أن نلقى الله، ويفعل ذلك من أكرمه الله وأعانه الله وحرص على ذلك وهم قلة، ومع ذلك تجدهم ارتكبوا ما يخالف الأمانة، ولكن الحسنات يذهبن السيئات.

أي: أن الله تعالى جل جلاله أظهر لنا ميزة الأمانة وقيمتها، وأنها الكلمة الجامعة الشاملة لكل ما أمر به المسلم في دنياه إلى أن يلقى ربه، ومع ذلك وصف الله الإنسان بالظلم لنفسه في تحمله الأمانة، وبالجهل في معرفته بحقيقة الأمانة وعاقبتها، ولكون هذه السماوات العلا وهذه الأرض السفلى وهذه الجبال وما خلق الله فوقنا وتحتنا على عظمة أجرامها عجزت وخافت وخشيت من التحمل، فامتنعت وأبت مع خضوعها لأمر الله، وهي لم تؤمر ولو أمرت لنفذت على قدر ما تستطيع.