للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لقد كان لسبإ في مسكنهم)]

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥].

ننتقل من الكلام عن سليمان وداود عليهما السلام إلى الكلام عن سبأ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥] كان لسبإ في مسكنهم قرئت (مَساكِنهِمْ)، و ((مسكنِهِم))، على صيغة المسجد، فلقد كان في مساكن سبأ في أرض اليمن ((آيَةٌ)) أي: علامة على قدرة الله جل جلاله، كما كانت هذه العلامات فيما سخّر الله لداود ولسليمان، وكذلك سخّر لهؤلاء، وقد كانوا مؤمنين صالحين قبل أن يبدّلوا ويغيروا.

قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)) وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة الغطيفي فقال: يا رسول الله! ما سبأ؟ أرجل هو أو امرأة أو أرض؟ والحديث في مسند أحمد قال: (سبأ رجل كان له عشرة من الأولاد، تيامن ستة وتشاءم أربعة) أي: سكن في اليمن ستة وسكن في الشام أربعة، وهؤلاء الذين سكنوا اليمن أسسوا حضارة كبيرة وبنوا السدود؛ لأن أرضهم كانت جبالاً، واستفادوا منها، وجمعوا المياه التي تأتي من العيون والتي تنزل من السماء والتي تجمعها الوديان والوهاد فجعلوا منها سدوداً، وقالوا إن الذي فعل ذلك هي بلقيس صاحبة سليمان، وقد كانت ملكة سبأ، وسبأ أرض على مرحلة من صنعاء عاصمة اليمن، انتبهت بذكائها إلى أن أرض اليمن يمكن أن تكون جناناً، ويمكن أن يكون فيها من الخصوبة ومن الفواكه ومن الأنعام ما يغني البلد ويغني جيرانها ويدع السكان يعيشون في رفاهية، ومن الماء جعل الله كل شيء حي، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:٣٠] وانتبهت بأن مأرب هي بين جبلين فأتت بالصنّاع وبالمهندسين وبالأبّارين المعتنيين بالماء وبالمياه، ثم جاءت لهذه الطريق بين الجبلين، فجعلت جداراً سداً من جهة اليمين وسداً من جهة الشمال، وإذا ببحر من الماء يرتفع وجعلت له أبواباً في أعلاه وأسفله قالوا: الأبواب عشرة، إذا فاض الماء فتحت الباب الأعلى، فإذا نقص فتحت الذي يليه، إلى أن تفتح آخر باب، ومع كثرة المياه والأمطار والينابيع أصبح هذا السد بحراً من الماء العذب الزلال، فأصبحت هذه المياه تسقي الجنان والبساتين والدور والقصور وما هم في حاجة إليه، ثم عن يمين وشمال زرعت هذه الجبال والأراضي والقصور والدور والبيوت والبساتين، فكانت فيه جنتان عن يمين وشمال، أي: أشجار وجنان عن اليمين والشمال، عن يمين سد مأرب وعن يساره وفي الدور وحيثما تنقلت، ومن هنا سميت في التاريخ بالأرض السعيدة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً).

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعود) عاد في لغة العرب هو الرجوع إلى شيء سبق وكان، ومعناه: أن جزيرة العرب بما فيها اليمن كانت في العصور السحيقة جناناً متصلة وبساتين، وهذا سنجد أثره فيما يدل عليه قول الله في الآية الآتية.

فعاشوا زمناً في غاية ما يكون من الرفاهية والخصب وتنوع الفواكه والحبوب وكثرة المواشي والدواب وكل ما يشتهون، قالوا: وأرسل إليهم ثلاثة عشر نبياً، فكانوا مؤمنين مسلمين موحّدين، فحفظ الله عليهم دنياهم وخصوبة بلادهم وما فيها من رفاهية ومن حضارة.

قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ)) أي: علامة على قدرة الله فيما يريده.

قال تعالى: ((جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ)) (كلوا) أمر بمعنى الخبر، أي: يخبر الله بأنهم كانوا يأكلون من رزق ربهم مما رزقهم من المياه، والمياه ليسوا هم الذين خلقوها، وإنما استفادوا من خلق الله، وما خلق الماء إلا الله جل جلاله.

قال تعالى: ((كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ)) أي: الذي كان نتيجة الأمطار والمياه والغيث، وهكذا أصبحت بلادهم جديرة باسم الأرض السعيدة التي سعد أهلها بما يريدونه ويرجونه ويسعون فيه من هناء وحضارة وأرزاق دارة.

قال تعالى: ((كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)) وبالشكر تدوم النعم، فكلوا مما رزقكم الله واشكروا الله تعالى على هذه النعم، اشكروه بالأركان وباللسان، وكما قال ربنا في كتابه المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] فبالشكر تزيد النعم، {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧].

وجحود النعمة وكفرانها تجرّد المنعم عليه من النعمة، والعذاب على كفر النعمة زوالها، نعوذ بالله من الخذلان ومن السلب بعد العطاء.

قال تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥] أي: بلدة طيبة بخيراتها وبمياهها وبفواكهها وبأرزاقها وبأنواع لحومها وبكل ما يشتهيه الإنسان في الأرض، وكأنها قطعة من جنان الآخرة، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥] أي: إن شكرتموه وأطعتموه وعبدتموه، وماذا يريد الإنسان أكثر من حسنة الدنيا والآخرة؟ وقد علمنا الله جل جلاله وعلمنا نبيه عليه الصلاة والسلام أن نُعيد هذه الآية ونكررها ونحن نطوف بالبيت المقدّس بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١]، وقد قال هذا لسبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي: البلاد طيبة، وفي الآخرة لهم غفران الله لذنوبهم، ومحو سيئاتهم، وقبول حسناتهم، ثم النهاية لهم بالجنان ورحمة الله دائماً.