للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)]

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥].

تقدم في تفسير كتاب الله أن الله جل جلاله عندما يدعو الناس فإنه يخاطبهم جميعاً كفاراً ومؤمنين، وإذا قال: (يا أيها الذين آمنوا) فهو يخاطب المؤمنين في فروع الشريعة وتفاصيل الإسلام.

فقوله: (يا أيها الناس) أي: يا أبناء آدم وحواء، من كافر ومسلم.

قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:٥].

وعد الله الذي وعده هو يوم القيامة، والمعنى: إن البعث حق، والعرض بعد الموت على الله حق، ومن أنكر ذلك كان كافراً خارجاً عن الإسلام.

وقد يكون معنى الوعد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [فاطر:٥]، أي: الذي جاء به أنبياؤه، ونزلت به كتبه، وقرره للخلق كلهم، أن هذه الدنيا لم تخلق عبثاً، وإنما كانت دار بلاء كما كانت دار عبادة وطاعة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].

حتى إذا عاشوا في الأرض ما شاء الله لهم عادوا إلى الله ليحاسب الصالح على صلاحه ويدخله الجنة، والطالح على فساده فيدخله النار.

ولن يفلت أحد من الحساب والعقاب، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عذب).

فمن لقي الله مؤمناً صادقاً مطيعاً تائباً فله من الله الرحمة والرضا والخلود في الجنة.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:٥] إن القيامة حق ليست بخيال، ولا بكلام يقال، ولكنها حقيقة من الحقائق، سيمر بها الناس كلهم، منذ خلق آدم وحواء إلى آخر إنسان في الأرض، أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا أممهم وشعوبهم ليعتقدوا ذلك ويستمسكوا به.

وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، الغرور: أن يغتر الإنسان بالباطل من أوهام وخواطر لا حقيقة لها، ولا وجود لها في واقع الحال.

وغرور الدنيا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:٥] خطاب من الله لبني البشر: أن الدنيا التي تعيشونها ما دمتم فيها فلا تغتروا بما فيها من شهوات ونزوات وأطماع ورفعة، فهي ليست دائمة بل هي فانية، فمهما عاش فيها من عاش فإن مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله والحياة الأخرى.

وقد عمر نوح عمراً طويلاً، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فمرت كأنها لم تكن، بل كانت كأنها حلم من الأحلام أو خواطر مرت ولم تبق، إذ بعد هذا الدهر الطويل والقرون المديدة كان مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله، وهكذا مهما عمر من عمر، ونقص عمر من نقص، فالمآل إلى الله، فالدنيا دار غرور، فالله ينبهنا، ويأمر نبيه فيما أنزل عليه أن يأمرنا بعدم الاغترار بهذه الحياة الفانية مهما كان فيها من شهوات ونزوات، ورفعة وسلطان ومكاسب في النساء، وفي القصور، وفي المناصب، وفي المآكل والمشارب؛ لأن ذلك كله ينتهي بالموت وكأنه لم يكن.

فالله يدعو الناس -كل الناس- ألا تغتروا بالدنيا ولا بما فيها من أباطيل وأضاليل، وألا تغتروا بالغرور، وهو الشيطان، فمعنى الغرور في قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، الشيطان، وسمي بذلك لأنه كثير الغرور، فالغرور هو الذي التزم وألزم نفسه أن يلزم الإنسان ضالاً مضلاً موسوساً صاداً عن الإيمان بالله، وعن الإيمان برسوله، وعن الإيمان بكتابه، وعن الإيمان بالحقائق من ربه.

{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:٥]، الدنيا هي الحياة الدنيئة القريبة إلى الزوال فكأنها لم تكن، وقوله: (يغرنكم) هو فعل مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، أي: أن الله جل جلاله يؤكد علينا بصيغ التأكيد ألا نغتر بالشيطان ولا نغتر بوساوسه، وألا نغتر بالحياة الزائلة الدنيئة التي تزول وكأنها لم تكن.

ولنسأل أنفسنا: أين الآباء؟ أين الأجداد؟ أين الملوك؟ أين الطغاة والجبابرة؟ أين الأمم السابقة؟ أين من بنى وشيد؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟ أولئك أصبحوا تراباً، فكل من جاء من التراب إليه يعود، ثم يبعث للحساب، ولعرض الأعمال، ومن ثم يعرف المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.