للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف)]

قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:٥٩ - ٦٠].

بعد أن ذكر الله حزب الصالحين من الأنبياء والرسل وورثتهم، عقب ذلك بذكر حزب الشياطين الذين بدلوا وغيروا وخرجوا عن أمر الأنبياء وطاعتهم ورسالاتهم، فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:٥٩] أي: خلف من بعد هؤلاء الأنبياء: زكريا ويحيى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل، خلف أضاعوا الصلاة، يقال لغةً: خَلْف وخَلَف، فَخلَف يقال للذرية الصالحة، وخَلْف يقال للذرية الطالحة، فيقال: فلان كان خير خلَف لخير سلف، ويقال: فلان كان شر خلْف لخير سلف.

والله أخبر أنه قد جاء من بعد هؤلاء أقوام خلفوهم وكانوا على غير هديهم وطريقتهم، فبعد أن انتهوا ومضوا وهلكوا جاءت قرون تخلفها قرون وأجيال تخلفها أجيال، فهؤلاء خَلَف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

قال ابن عباس وجمهور من السلف الصالح: كان إضاعتهم للصلاة تركها، فهؤلاء تركوا الصلاة وكفروا وأشركوا، وخرجوا عن سبل الإسلام وعن هدي الأنبياء، وقيل: أضاعوا أوقاتها فذلك ضياعها، فمن أسباب الهلاك تضييع أوقاتها سهواً أو إغفالاً أو عدم اهتمام أو بعداً عن أمر الله وطاعته.

وكون تارك الصلاة كافراً هو ما عليه الجمهور من السلف الصالح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة)، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وذلك مذهب أحمد بن حنبل وقول للإمام الشافعي.

وسواء فسرنا بضياعها تركها أو بالسهو عن أوقاتها وإغفالها، فبسبب ذلك حشرهم الله مع الذرية الضائعة الطالحة التي خلفت الأنبياء والرسل على غير ما يجب أن يخلفوا به من الطاعة لله والطاعة لرسله، والقيام بالعبادة كما أمر الله ورسله.

فمن صلى الصلاة في غير أوقاتها فقد أهمل وسها وتهاون وتلاعب، وأما من تركها البتة فقد كفر، ويكون بذلك خَلْفَ سوء لسلف صالح من الأنبياء والمرسلين وورثتهم من العلماء الصالحين.

ومن خصائص الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهؤلاء لم يبق عندهم ما يحصنهم ويردعهم ويبعدهم عن السوء والفحشاء.

فعندما يتهاونون بالصلاة تركاً لها أو تركاً لأوقاتها فإنهم يتبعون الشهوات والمعاصي وشرب الخمور وأكل الربا وأكل السحت وظلم الناس والاعتداء على أعراضهم ظلماً وعدواناً وعلواً في الأرض وفساداً، فما كان تحصيناً وما كان سياجاً وحفاظاً على حياتهم الإسلامية وأعمالهم الدينية زالت عنهم بتركهم الصلاة، ولم يبق لهم ما يحصنهم ولا ما يحفظهم، فبسبب تركهم الصلاة وعدم القيام بها في أوقاتها اتبعوا الشهوات من فسق ودعارة وأكل للحرام وارتكاب للسوء بكل أنواعه.

وقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء فئة لم تأت بعد، يتركون الصلاة فينزو بعضهم على بعض في الشوارع والأزقة والطرقات نزو الكلاب والخنازير والدواب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).

وهؤلاء قد ابتدأ عصرهم وآن أوانهم، فهم يرون في الكثير من ديار الإسلام، أما ديار الكفر فمن جاء على أصله فلا سؤال عليه، ولكن العجيب أن يكون ذلك في ديار الإسلام وأرض المسلمين، وهم لا يحللون حلالاً ولا يحرمون حراماً.

قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩] السين للتسويف القريب، وسوف للتسويف البعيد، فهؤلاء الذين يضيعون الصلاة ويأتون الشهوات بأنواعها والموبقات بأشكالها، سيلاقون في مستقبل أيامهم عند هلاكهم غياً، والغي: الفساد والهلاك والتدمير والذل والهوان.

فهؤلاء الذين أتوا الفواحش سيكون جزاؤهم الخزي من الله والخراب والدمار والفساد، فتفسد عليهم دنياهم وآخرتهم.

وقال الجمع الغفير من المفسرين: إن الغي: واد في جهنم تسيل فيه دماء وقيح الكافرين من أهل النار، وهو في قعر جهنم، وكلما حاولت جهنم أن تنطفئ إذا بهذا الوادي يسعرها ويزيدها لهيباً واشتعالاً، وهي غذاء وشراب هؤلاء المفسدين التاركين للصلاة، والذين ارتكبوا الشهوات.

وتارك الصلاة ليس بكافر على قول، ولكنه مع ذلك يعتبر وباءً يجب أن يزال من الأرض.

فقال المالكية: يجب زوال تارك الصلاة من الأرض حتى لا يعدي غيره قريباً أو بعيداً من أسرته أو من طلابه أو من عموم الناس، فيجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال بمثل ذلك الشافعية.

وقال أبو حنيفة: لا يقتل، ولكن يسجن سجناً أبدياً، بحيث إذا خرج وقت الصلاة ولم يصل يدعى للصلاة فإن صلى فذاك وإلا بقي في السجن، وهكذا إلى أن يموت في السجن.

وقال الظاهرية: لا يسجن ولا يقتل ولكن يجلد عشر ضربات، إلا أنه إذا جلد العشر فلم يصل تعاد عليه، فإن صلى فذاك وإلا سيعاد عليه الضرب عشراً فعشراً إلى أن يموت أو يصلي.

إذاً: فكلهم اعتبروه شخصاً موبوءاً يجب أن يبعد عن الناس؛ لكي لا يعديهم بقلة دينه، وباستهتاره بطاعة ربه؛ ولكي لا ينشر بينهم ترك عبادة ربه وترك السجود له والصلاة.