للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون)]

قال الله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:٦٨].

بعض الناس يعمر وينكس في الخلقة الذاتية الشخصية، والبعض يمسخ في عقله ويمسخ في دينه، فأولئك الكافرون ما زادهم التعمير وطول السنين والأيام إلا كفراً وإصراراً على الكفر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (من شب على شيء شاب عليه).

قوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ): أي: نطل عمره، أي: فإنه طال عمره وعاش في الدنيا كثيراً، وهذا شيء مشاهد يلفت الله أنظارنا إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يتجاوز ذلك)، وكان من قبلنا يعمرون المئات من السنين، وكانوا أطول قامات وأعرض أكتافاً، فكان أبونا آدم في طول النخلة الشاهقة الطول، وكان عرضه أمتاراً، وعاش نوح في الدعوة إلى الله في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي الإنجيل والتوراة الكلام كثير على أنبياء بني إسرائيل، فهم من عمر ثلاثمائة سنة، ومنهم أربعمائة، ومنهم خمسمائة وأقل، ولكن أعمار الأمة المحمدية بين الستين والسبعين، كما قال عليه الصلاة والسلام، والقليل من يتجاوز السبعين والثمانين والتسعين، وتجد أقرانه قد ذهبوا وسبقوه، وبقي هو في أناس هم في رتبة الأولاد والأحفاد والأسباط وغير ذلك.

وقوله: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:٦٨]، أي: في الخلقة التي عاش عليها، كما قال ربنا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤].

فخلقنا ضعاف الأبدان عند ولادتنا، فلو جاءت قطة لافترستنا ولا نستطيع حراكاً، ولو ضربت المدافع لما أدركنا ماذا يعني ذلك، ثم نكبر بالأجسام والأذهان، كما نكبر في الفهم، فمن الرضاع، إلى الطفولة، إلى اليفوعة، إلى الشبيبة، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى السنين الفانية، إلى أرذل العمر، وأرذل العمر يختلف باختلاف الناس، فقد يكون أرذل العمر بين الخمسين والستين، وقد يتجاوز من أكرمه الله بحواسه التسعين والمائة، ويبقى على غاية ما يكون فهماً وإدراكاً ووعياً، ولكن الجسم يبلى وقد يشتد ضعفه.

فقوله: (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي: كما خلق من ضعف فسيعود للضعف، وقد ينكس ليس في ضعف البدن وحده، بل وفي ضعف البصر والحواس جميعها، والعقل كذلك والإدراك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من أرذل العمر، ومن أن يعيش الإنسان حتى يحتاج إلى آخر؛ لأنه سيصبح ثقيلاً على أهله، وربما يصبح ثقيلاً على نفسه.

نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله أن يمتعنا بحواسنا ما أحيانا، وأن يحيينا ما كانت الحياة خيراً لنا، لا نسأله موتاً ولا طول عمر، ولكن نسأله العافية مدى العمر، فإذا سألتم الله فاسألوه العافية.

وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) هؤلاء على كثرة ما طالت أعمارهم، وامتدت سنوات حياتهم نكسوا، وازدادوا كفراً وشركاً، ولذلك تجد المسنين من الكفار على غاية ما يكونون من الشرك، وتصبح تلك العقائد ثابتة في أنفسهم لا يحيدون عنها ولا يقبلون قولاً غيرها مع فسادها، إلا من هدى الله وقليل ما هم.

وأما الشيبة المسلم فإنه كلما ازداد عمراً فببركة الطاعة وببركة التلاوة، وببركة الوقوف بين يدي ربه تهجداً في الليل والناس نيام، فالله جل جلاله يبارك له في صحته، ويبارك له في حواسه، إلى أن يلقى الله تعالى راضياً مرضياً.