للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان)]

لقد أعاد سبحانه ذكر قصص بعض أنبيائه ورسله تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام مما لقيه من عنت الكفار، وهو كذلك تسلية لخلفائه من أئمة العدل ومن العلماء والدعاة إلى الله، فقال ربنا: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٣٠].

أي: أن ربنا جل جلاله، وهب لداود ولده سليمان عطية وكرامة ومنحة، وهو لم يهب له سليمان وحده، بل له أولاد كثيرون، ولكن سليمان كان نبي الله وكان رسول الله، وكان الوارث لهذه النبوة والرسالة من داود، ولم يكن أولاده الآخرون كذلك، ولذلك خص سليمان بالذكر والإشادة {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٣٠] أي: كان سليمان عبداً لله صالحاً، وكان عبداً لله نبياً، وكان عبداً لله منذراً وبشيراً وداعياً إليه بإذنه، وكان يعود إلى الله إذا أخطأ وإذا صدر عنه ما لا يليق، فهو كثير الأوبة، وأواب صيغة مبالغة فعال، فهو كثير الرجوع إلى الله، وكثير التوبة فيما يصدر عنه.

وذكر الله لنا عن سليمان فيما استغفر فيه الله، أحدهما: كان ابتلاء واختباراً من الله، والثاني: ما ذكره ربنا سبحانه في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:٣١ - ٣٣]، أي: اذكر يا محمد سليمان هذا العبد الصالح، هذا العبد الذي حسنت أخلاقه وحسن عمله، وحسنت دعوته، وقام للناس بما أمر الله به، اذكر قصته {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:٣١]، أي: إذ استعرض سليمان الجياد، والجياد جمع جواد وهي الخيل الأصيلة السريعة القوية.

وقوله: (الصافنات) جمع صافنة، أي: الواقفة على ثلاث أرجل، والرابعة على جنب منها، أو القائمة مطلقاً.

فاذكر حالة سليمان إذ استعرض في عشية من العشايا وفي أمسية من الأمسيات خيله وجنده، وكانوا عشرين ألف جواد، فخرج يستعرض خيله فنسي حال استعراضه لها صلاة العشي، وهي الصلاة التي نسميها في شريعتنا بصلاة العصر، فسليمان نسي ولم يذكرها حتى غابت الشمس واختفت تحت الحجاب، وخرج وقت تلك الصلاة، فآلمه ذلك، فعاقب نفسه وذلك بأن طفق يضرب هذه الخيل بالسيف أعناقاً وسيقاناً، فقطع رقابها وعرقب سيقانها فقتلها؛ لأنها شغلته عن ذكر الله وعن عبادة الله وصلاته.

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣١ - ٣٢] أي: عندما وجد نفسه قد أغفل صلاة العشي حتى غابت الشمس وسترت عنه بالحجاب، قال: شغلت بحب الخيل، والخيل من الدنيا والمال، فآثرت حب الخيل وحب الملك وحب الجاه فشغلني ذلك عن ذكر ربي، وعن عبادة ربي في الصلاة.

{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣٢]، حتى حجبت عنه، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:٣٣] أي: قال لجنده: أعيدوا علي الخيل، أعرضوها علي، فأخذ يمسحها ويضربها بالسيف بالسوق والأعناق، والسوق جمع ساق، والأعناق: جمع عنق، وأمر من معه بمثل فعله حتى أتى على تلك الخيل كلها بأعدادها العشرين ألفاً فقطع رقابها وعرقب سيقانها؛ لأنها كانت سبباً في تركه للصلاة في وقتها، فاتهم نفسه بأن الدنيا وخيرها شغله عن ذكر الله وعبادته، فعاقب نفسه بأن أخسرها هذا المال وهذا الخير الجزيل.

وكان ذلك جائزاً في شريعته، وإلا ففي شريعة الإسلام ضياع المال وقتل الحيوان بغير مصلحة لا تجوز، وماذا صنعت الخيل لتعاقب بذلك؟! على أن ابن جرير وجمعاً من المفسرين قالوا: (طفق مسحاً) أي: مسح أعناقها ومسح سيقانها حباً لها، لأنه عليه السلام لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها، ولكن هذا يخالفه ما ورد في الصحاح: من أن سليمان ترك صلاة العشي حتى غابت الشمس، وكذلك بما ورد في سنن أبي داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فوجدها تلعب يصور فيها خيل، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ما هذه الخيل؟ قالت: هي من صنع يدي ومن عملي، قال: ما ذاك بجانبيها؟ قالت: أجنحة، فقال: فرس بجناح؟ قالت: له: ألم تسمع أن نبي الله سليمان كانت خيله ذوات أجنحة، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه).

ولذلك قالوا: بأن هذه الخيل كانت ذوات أجنحة، واستدلوا بهذا الحديث.

وأما غروب الشمس فقد كانت مرت على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورأس رسول الله على فخذه وقد جاءه الوحي أثناء ذلك فاضطر علي للوقوف حتى انتهى الوحي ورفع رأسه صلى الله عليه وسلم وقد غربت الشمس وفاتته صلاة العصر فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (هل صليت العصير يا علي! قال: لا)، فروي في الكثير من السنن أن الله تعالى أمر بعودة الشمس حتى صلاها، صحح ذلك الإمام الطحاوي وأنكره ابن الجوزي ولكن الحافظ رد على ابن الجوزي وأكد بأن الشمس ردت لـ علي حتى صلى صلاة العصر في وقتها.

وتحدث النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا قد كان من سليمان، مما يؤكد معنى قوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣٢]، حتى غطاها في حجاب الليل وغابت.

((رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا)) أي: ضرباً بالسيف، و (مسحاً) مفعول مطلق اكتفي به عن ذكر الفعل.

فأخذ يضرب بالسيف على أعناقها وسوقها، وكان ذلك منه كفارة على عمله، ولكي لا يعود لذلك من بعد.