للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)

قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:٣٥].

أي: اغفر لي ما صدر عني مما ابتليتني به وعاقبتني عليه، ولم يكتف سليمان بطلب المغفرة بل طلب المزيد مما عنده سبحانه، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:٣٥]، استغفر ربه مما صدر عنه وطلب منه أن يهبه ملكاً وسلطاناً لا ينبغي ولا يتم لأحد من الإنس والجن بعده.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي: كثير الهبات والعطايا الذي لا يعجزه شيء سبحانه، فأنا أطلب كريماً عنده كل شيء.

وإذا بالله الكريم يستجيب له فيقول: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٦ - ٣٩].

فاستجاب الله له وأعطاه ما لم يعط أحداً قبله ولا أحداً بعده، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:٣٥].

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً اختلطت عليه بعض آيات في الصلاة وأخذ يتقدم ويتأخر ويمد يده، فعندما سلم قالوا له: يا رسول الله! رأيناك تصنع شيئاً لم يسبق أن صنعته قبل، قال: نعم، جاءني شيطان وأنا أصلي بشهاب من نار، يريد قذفه على وجهي، وأنا ألعنه بلعنة الله وأقول له: أعوذ بالله منك، وهو يأبى إلا الإصرار، فقبضته وشددت عليه، حتى وجدت برد ريقة في يدي، وكدت أربطه في سواري المسجد ليصبح صبيان المدينة فيتلاعبون به، ولكنني تذكرت قول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:٣٥] فتركته).

على أن نبينا فعل ذلك أدباً وإلا فقد تمكن من الجني وقبضه وكاد يقتله خنقاً، ثم تذكر طلب سليمان فتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وهو أفضل وأنبل وأكرم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مع تسخير الجن له آمنت به وأسلمت، وفي القرآن سورة اسمها سورة الجن، وفي مكة المكرمة مسجد اسمه مسجد الجن، قالوا: هو في المكان الذي أوحي إليه فيه بسورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:١].

فآمن من آمن منهم كالبشر، وكفر من كفر منهم كالبشر، وأعان الله نبيه على أن أسلم شيطانه، وكان لا يأمره إلا بخير، هذا الشيطان المكلف بكل نفس بشرية يوسوس لها.