للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (والصافات صفاً)

يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:١ - ٥].

سورة الصافات سورة مكية، أي: نزل بها الروح الأمين على قلب نبينا الشافع الأمين صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وآياتها اثنتان وثمانون آية، وسميت الصافات لأول السورة.

والصافات: هي الملائكة التي اصطفت بأجنحتها في الهواء تنتظر أمر الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي بها في صلاة الصبح يقرؤها في ركعة واحدة.

يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:١] هذا قسم من الله، والصافات: جمع صافة، أي: الملائكة مرصوصة مصطفة بأجنحتها في الهواء لتنتظر أمر الله، وهي المصطفة لعبادة الله، وقد جاءت الأحاديث بهذا المعنى.

قال عليه الصلاة والسلام: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً كلها، وبأن جعل لنا ترابها طاهراً إذا لم نجد الماء).

وقال عليه الصلاة والسلام -والحديث في مسلم وفي السنن- (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقال قائل: يا رسول الله! فكيف تصف الملائكة؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصفوف)، أي: لا يصفون في الصفوف الخلفية إلا بعد أن تتم الصفوف المتقدمة، وتكون الصفوف متراصة الكتف إلى الكتف والكعب إلى الكعب.

{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات:٢].

الزجر: هو المنع والردع، والزاجرات هي الملائكة التي تزجر الإنسان في أعماله، وعلى كل واحد منا ملك عن يمينه وشماله، وهي تزجر الكافر عن الشرك والمؤمن عن المعاصي.

وقيل: (والزاجرات) أي تزجر السحب لأنها لو بقيت في السماء لحالت بين الأرض وضوء الشمس، والأرض بحاجة إلى ضوء الشمس والحياة محتاجة للشمس، فهي تزجر السحاب وتصرفه، {فَالزَّاجِرَاتِ} [الصافات:٢] الرادعات المانعات من الشرك ومن المعصية.

{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:٣].

أي: التي تتلو ذكر ربها، والتي توحد ربها، والتي لا تنقطع عن عبادة ربها.

فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا هي الملائكة كذلك، والواو واو القسم، فقد أقسم الله بالملائكة تنوينها بفضلها وعظيم خلقها؛ لأن الله لا يقسم إلا بعظيم، وقد قال لنا نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما من موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد).

وذكر الملائكة هو كالنفس في البشر، وكما أن الإنسان إذا انقطع نفسه انقطعت حياته، فالملك إذا انقطعت عبادته وذكره مات، وهو سيموت يوماً، وسيبلى كل شيء، ويفنى كل شيء، ولن يبقى إلا وجه ربنا ذي الجلال والإكرام.

قال تعالى: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات:٣ - ٤].

يقسم الله بملائكته أن إلهنا واحد، وكان هذا جواباً منه جل جلاله لنبينا عليه الصلاة والسلام للكفار عندما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]؛ لأن النبي دعاهم إلى توحيد الله جل جلاله، وأن الآلهة التي ادعوها ما هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، أي: من دليل ولا برهان، بل هي أكاذيب وأضاليل وأباطيل لا واقع لها في الحياة.

وقال قوم: لله أن يقسم بما شاء من خلقه، فقد أقسم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأقسم جل جلاله بالليالي العشر، والشفع والوتر، أقسم بالتين والزيتون، أقسم بالملائكة، ولكن قال قائلون: هو قسم بالله لا بهؤلاء؛ لأنه رب الزاجرات زجراً، ورب التاليات ذكراً، وهذا قالوه انطلاقاً من أن الحلف لا يكون إلا بالله، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ولكن ذلك أمر لنا.

والجمهور: على أن الله قد أقسم بالكثير من مخلوقاته وذلك للفت النظر إلى مقامها، ولذلك لفت الأنظار إلى مقام الملائكة، وإلى عظيم عبادتهم وإلى طاعة ربهم فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ثم قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:٥].

ربنا جل جلاله وإلهنا وخالقنا هو رب السماوات والأرض، رب السموات السبع، مدبرها وخالقها ورازقها والقائم عليها جل جلاله، وهو المدبر للأرضين وخالقها، والرازق لها، والقائم بشأنها جل جلاله، لا ثاني له، ولا ند له، وكل ما سوى الله إنما هو من ضلال الضالين، وإبطال المبطلين: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١]، فلو فكر الإنسان في نفسه: كيف أتحرك؟ كيف أتذوق؟ كيف أسبح؟ كيف أمشي؟ كيف أجلس؟ من الذي أعطاني هذا؟ وعندما نموت فأين سنذهب؟ والروح التي بين جنبي ما حقيقتها وما كنهها؟ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، قالوا: الروح هي الذهاب والحركة، قلنا: هذا أثرها وليست هي، الروح قدرة الله، الروح أمر الله، الروح روح الله جل جلاله، بها تحركنا، وبها عقلنا وأدركنا، فقد استأثر الله بمعرفة حقيقة الروح وماهيتها، وطالما تساءل الناس في الجاهلية وما قبلها عن مآلهم فلا يستطيعون فهماً ولا يستطيعون إدراكاً.

إن السماء والأرض خلق من خلق الله، هذه الكواكب التي زين بها الأرض، هذه النجوم التي لا يحصي عددها إلا الله، هؤلاء الخلق المخلوقون من السماء والأرض من ملائكة الله، من خلق الله، ومما لا يعلمه إلا الله بين السماوات والأرض، فإن بينهما خلقاً لا ندري حقيقته، ولكنه خلق عاقل، خلق مدرك، وقد قال ربنا جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:٢٩].

يقول تعالى من آيات قدرته، من آيات قوته: خلقه السماوات والأرض، وما خلق فيهما من دابة، والدابة: ما يدب على وجه الأرض، وليست الدابة ملكاً؛ لأن الملك له أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فلا يدب على الأرض، ولا يمشي على الأرض، بل إن الملائكة تطير في الأجواء تسبح وتعبد الله.

ولقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام جبريل في الأجواء وله ستمائة جناح قد سد الأفق، رآه مرتين على خلقته التي خلقه الله عليها، وأكثر ما كان يرى على صورة البشر؛ لأن من خصائص الملائكة: أنها تتكيف وتتشكل كما تريد.

وعندما نزل على نبينا في غراء حراء نزل في صورة إنسان فقال: (اقرأ) فكرر ذلك ثلاثاً، وكان يراه أكثر ما يراه في صورة دحية الكلبي الصحابي الأنصاري الجميل، فرآه مرة في صورة بدوي نظيف معطر، دخل المسجد وأصحاب النبي حوله.

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:٢٩].

وقد قلنا: إن (إذا) إذا دخلت على الماضي حولته مضارعاً، وإذا دخلت على المضارع حولته ماضياً، وهو على جمعهم إذا يشاء: يدل على الحال والاستقبال، فلما دخلت (إذا) حولته للماضي: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:٥]، ولا يكون مشرق إلا ومعه مغرب أي: رب المشارق والمغارب، وقد ذكرت الآية على التثنية: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:١٧]، وعلى الجمع: {ِرَبِّ الْمَشَارِقِ} [المعارج:٤٠]، وعلى الإفراد: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:٢٨].

قالوا: إن للشمس ثلاثمائة وستين كوة -أي: تشرق وتغرب كل يوم من كوة فكل كوة تشرق منها فهي مشرق، وكل كوة تغرب فيها فهي مغرب، ومجموع الكوى ثلاثمائة وستون مشارق عند الشروق، ومغارب عند الغروب.

{ِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:٤٠]، لا يكون شروق إلا وبعده غروب.