للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله)]

قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:٣٥ - ٣٧].

يذكر ربنا جل جلاله كفر هؤلاء الكفار المشركين، الضالين المضلين، الذين جازاهم وكافأهم بالعذاب الدائم المقيم، وأن ذلك كان لاستكبارهم وتعاظمهم على الله، وأنهم كانوا إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، يستكبرون على خالقهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ثاني معه في ذات أو سلطات أو فعال، وفي تفسير ابن أبي حاتم المسند بالرواية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحق الإسلام وحسابه على الله).

وما جاء الأنبياء والمرسلون منذ آدم أبينا إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم إلا بقول: لا إله إلا الله، ولقد قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله)، أي: لا إله حق، ولا إله موجود، ولا إله معبود إلا الله جل جلاله، فإن كل ما يدعي المدعون، ويشرك المشركون، ويجعلونهم لله أنداداً وشركاء لا وجود لهم، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.

فهؤلاء الظالمون لأنفسهم المشركون بالله جل جلاله كان إذا خالفهم أنبياؤهم وقالوا: لا إله إلا الله تكبروا وتعاظموا، وطلبوا من غيرهم أن يقول مثل قولهم من الشرك والكفر وعبادة الأوثان والأصنام، هذا في القديم، ولا يزال الأمر كذلك إذا أنت خاطبت ظالماً لنفسه كافراً بربه، وقلت له: قل: لا إله إلا الله، أخذ يسخر ويقول: نحن في حضارة وفي عصر منور مثقف، ومع ذلك لا نزال نعود لهذه الرجعيات القديمة، فهؤلاء ذهب الله ببصائرهم قبل أن يذهب بأبصارهم، وذهب الله بنورهم فتركهم في ظلمات يتخبطون فيها، إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها.

ولم يكتفوا بذلك بل زادوا فقالوا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٦]، يعنون -عليهم لعنات الله- نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد البشر، كان إذا قال لهم: قولوا لا إله إلا الله أخذوا يسخرون ويقولون: أجعلت الآلهة إلهاً واحداً، أتريد أن نترك مجموع هذه الآلهة لنعبد إلهك وحدك، فلذلك قالوا عن وحيه، وعن الكتاب المنزل عليه: هو شعر، وقالوا عن دعوته ورسالته: هي جنون، ولذلك وصفوه بالشاعر المجنون، وما هو بشاعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩]، فما هو إلا وحي يوحى، إن هو إلا ذكر يتلى، إن هو إلا رسول أرسله الله ليدعو الخلق إلى عبادة الله، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فالله جل جلاله حكى عنهم هذا ثم سفه عقولهم، ثم أغفل كلامهم وقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:٣٧].

جاء نبينا عليه الصلاة والسلام بالحق والصدق، جاء بالحق المبين، جاء بكتاب يدعو إلى الهدى والفلاح والصلاح، جاء بالصدق الذي لاشك فيه ولا ريب، جاء بالرسالة الحقة، جاء بكتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

(وصدق المرسلين) صدق من جاء قبله من رسل الله؛ لأنهم أتوا بما أتى به، قالوا لأممهم، ولعشائرهم، ولشعوبهم: نحن مرسلون إليكم من الله، قولوا: لا إله إلا الله، وما كانت الرسالات في أصلها وفي دعوتها إلا رسالة واحدة، كل الأنبياء جاءوا بالتوحيد وعبادة الله الواحد، فإن رأينا النصارى تعبد مريم وعيسى، واليهود تعبد العجل، وغيرهم يعبد ويعبد، فلنعلم أنها أضاليل وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، إن هو إلا إفك تواطئوا عليه، وائتمروا به، وما جاءوا بشيء يقبله عقل ولا منطق، ولا معه كتاب من الله وسلطان مبين، بل أضرب الله عن قولهم بأنه شاعر، بأنه مجنون، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، بل جاء بالحق من الحق، فرسالته حق، والكتاب المنزل عليه حق، والدعوة التي يدعو إليها حق، وصدق الحق الثابت من الأنبياء السابقين: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين).