للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم)

قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٢ - ٦٣].

على العادة في كتاب الله وسنة ربنا -ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً- يذكر في القرآن حال أهل النعيم ثم يتبع ذلك بذكر حال أهل العذاب المخلدين في النار، فيقدم هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ويعكس أحياناً، فيبقى العبد في دار الدنيا بين الرجاء والخوف، يرجو ربه ورحمته، ويخاف عذابه، فإذا خاف ربه تاب ورجع عن معصيته وعما يفعله العصاة والمشركون، فإذا عاد سعى في العمل الصالح بما يقربه إلى الله عبادة وطاعة، وذلك بامتثال أوامر الله تعالى، وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢].

ولاشك لكل عاقل ومدرك أن الفرق عظيم ظاهر بين أهل النعيم وأهل الجحيم، فقد رضي الله عن المؤمنين وسخط على الكافرين، يقول تعالى مقرراً هذا المعنى على طريقة الاستفهام الذي معناه التقرير {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢].

أي: أهذا الذي قص الله علينا من الجنة وصفاتها: من خمرها الذي هو أبيض لذيذ للشاربين، والحور المقصورات في الخيام، القاصرات الطرف على أزواجهن: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢].

وشجرة الزقوم شعار النار، أي: أهذا الخير الذي ذكره الله عن نعيم أهل الجنة من الأرزاق المعلومة والحور العين، خير أم النار؟! قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} [الصافات:٦٢] أي: منزلة.

ثم أخذ الله يصف هذه الشجرة فقال عنها: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣].

وشجرة الزقوم هذه عندما سمع عنها أبو جهل، وسمعها صناديد الكفار من قريش أخذوا في السخرية من ذلك وقالوا: كيف تنبت شجرة في النار؟! وجاءهم بربري من أرض البربر وقال: شجرة الزقوم عندنا تعني: الزبد والعسل، فلما سمع بذلك أبو جهل دخل بيته وقال: يا جارية! تعالي زقمينا! فأتتهم بالتمر والزبد والعسل، وليس الأمر كذلك، وقد اختلف أهل العلم في شجرة الزقوم؛ هل توجد في الأرض أم هي شجرة مختصة بجهنم؟ والحقيقة: أنها من شجر الدنيا، وفي جزيرة العرب ما يسمى بشجرة الزقوم، وهي شجرة مر طعمها، مر طعم فاكهتها، لا تكاد تنبت لها فروع.

قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٥].

فهي قبيحة المنظر، مرة المذاق، أما وضعها في النار فكما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣]؛ وذلك لأنهم قالوا: اسمعوا ماذا يقول محمد: شجرة تنبت في النار، وهل الشجر الأخضر يثبت مع وجود النار؟! قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣]، فقد اختبر بها الكافرين والمشركين، وإلا فالله الذي خلق الشجر أخضره ويابسه كما خلق الخلق أجمعين، فخلق قوماً لا يعيشون إلا في البراري، وقوماً لا يعيشون إلا في الماء، وقوماً لا يعيشون إلا في النار فإذا أخرجوا منها ماتوا، وهذا كله قبل الآخرة، ونحن وأمثالنا لا نعيش إلا خارج الماء ولو دخلنا الماء لاختنقنا، لا نعيش في نار الدنيا ولو دخلها أحد منا لاحترق، وأحياء البحر خلق من خلق الله بكل الأنواع والأجناس لو خرجت من البحر لاختنقت، فلا تعيش إلا بهذا الماء، وذكروا أن هناك طائراً يعيش في البراكين وهذا الطائر أبيض عندما يذهب للبحث عن رزقه يرجع مليئاً بالأوساخ، فإذا جاء ودخل البركان ذهبت كل تلك الأوساخ وعاد أبيض ناصعاً كما كان.

فالله الذي جعل هذا في دار الدنيا ما الذي يمنعه من أن يجعله في الآخرة؟! وقد أخبرنا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣]، والفتنة: هي البلاء، أي: جعلها فتنة للمشركين ليصدقوا أو يكذبوا، على أن كل أمور الآخرة في الدنيا لا تكاد تصدق إلا بتصديق الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءت به كتب الله، وهذا من ناحية العقل لا يعتقد سواه؛ لأننا عندما نفكر في أنفسنا وذواتنا ونسأل أنفسنا: كيف خلقنا؟ فإننا نعتقد أن من خلقنا قادر على أن يخلق كل شيء، هذا الذي خلقنا ما الذي يمنعه من أن يخلق في النار شجرة تنبت فيها، وهذا الكلام في أهل النار، أما نار الدنيا فلا يكون هذا، وقد وصف الله لنا: جلود أهل النار عندما تحترق يعيدها ويجددها ليبقوا في عذاب دائم، ونحن نتجدد في سلالاتنا وأولادنا، وما أولادنا إلا حياة تبعية لنا، وقد جعلهم الله امتداداً لنا إلى أن يوقفهم بالقضاء على الدنيا وبفنائها، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

والمؤمن يؤمن بكل هذا دون الحاجة إلى التأويل، فما قاله الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق الصراح؛ فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

أما الذهاب إلى التأويل فهو شأن الملاحدة الذين يزعمون الإسلام، والملاحدة كفار في الأصل، أتوا إلى القرآن فحاولوا أن يؤولوا الأحكام التي فيه، حتى إنهم قالوا في الصلاة: إنها بمعنى: الرياضة، والصلاة معناها: الدعاء فلا حاجة إلى هذا التأويل الباطل.

قالوا: الصيام: ليس الإمساك عن الأكل والشرب، ولكنه الإمساك عن السيئات فقط، فكذبوا على الله ونافقوا وألحدوا في دين الله، وقد كان هؤلاء في الماضي ولا يزالون معنا، وسيبقون إلى يوم القيامة.

قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦].