للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق]

فمن هذا الوليد؟ ما اسمه؟ فقد كان لإبراهيم ولدان كلاهما نبي كريم: إسماعيل وإسحاق، فمن هو هذا الذي لم يسمه الله في هذه الآية؟ قالت جمهرة من العلماء: إن الذبيح هو إسحاق بن سارة، وهو كلام تلقف من اليهود، وأخذ من كعب الأحبار ولا أصل له، والقرآن محتو على تفسير آياته لمن تمعن وتفكر، والذي يتفكر يجزم أن الذبيح هو إسماعيل، وممن قال هذا القول: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وروي عن ابن عباس خلاف في هذا القول، فروي عنه أنه إسحاق، وروي عنه أنه إسماعيل، وهو رأي جماعة من التابعين كذلك، والأدلة القاطعة على هذا: أولاً: إسماعيل هو الذي كان هنا في مكة، والذبح وقع في منى عند المنحر، وكان ذلك أيضاً وقت الحج عندما ذهب الشيطان في صورة إنسان إلى أمه هاجر، فقال لها: يا هاجر! أين ذهب إبراهيم بابنه إسماعيل؟ قالت: ذهب لحاجته، قال لها: لم يذهب لحاجته وإنما ذهب ليذبحه قالت: لم يذبحه؟ قال: يزعم بأن ربه أمره بذلك فقالت: إن كان ربه أمره فأمر الله لابد أن يطاع وصبر جميل.

فأيس منها فذهب إلى إبراهيم فقال: يا إبراهيم! أين تذهب بولدك؟ قال: لحاجة، قال: بل تريد أن تذبحه، قال: كيف عرفت ذلك؟ قال: أدركت بأنك زعمت أنك رأيت رؤيا بقتله، قال: إن كان ربي أمرني فسأنفذ أمر ربي.

فذهب إلى الوليد فقال: يا إسماعيل! -وكان خلف أبيه- أين أنت ذاهب مع أبيك؟ قال: لحاجتنا.

قال: لا، يريد أن يذبحك قال: لم يذبحني؟ قال: لأنه زعم أنه رأى رؤيا قال: إذا رأى رؤيا وربه أمره فأمر ربنا مطاع.

فذهب إلى أصل الرجم الذي لا نزال نرجمه بالخذف في ذلك الموضع إلى يومنا، فجاء الشيطان وظهر لإبراهيم عند جمرة العقبة، فعندما رآه إبراهيم وإسماعيل قذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الوسطى فرمياه وقذفاه بسبع حصيات، فذهب إلى الجمرة الكبرى، فقذفاه ورمياه بسبع حصيات، وكان هذا أصل الرمي، وبقي رمزاً على أن الحاج عندما يأتي عابداً ربه هذه العبادة التي لا تكون واجبة إلا مرة في العمر، فإنه يفعل فيها ما سبق أن فعله إبراهيم الذي بنى الكعبة ومعه ابنه إسماعيل، وهو الذي شرع بأمر ربه الحج ومناسكه، ولكن خزاعة وقريشاً بعد ذلك غيروا وبدلوا، فبقي الحج مغيراً مبدلاً إلى أن أعاده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما كان عليه أيام إبراهيم إلا فيما أمره ربه به من شرائع جديدة فيه.

فكان من ذلك أن الحاج عندما يصل إلى منى، وعندما يصل إلى الجمرات يرمي الجمرات، والرمي: أن يقذف الشيطان بحصوات الخذف، ويرميه كذلك من نفسه، وينبذ وساوسه، ومعنى ذلك: أنه يستعين بالله وهو يرمي بهذه الحجرات، وينوي بما يقذفه من الحصيات أنه لن يطيع الشيطان بعد اليوم في شيء، ولن يخضع لوساوسه، ولن يخضع لفتنته، ولن يخضع لبلواه قط.

وبقي ذلك شرعاً إلى يوم القيامة عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام فأكد ذلك، وجعله من المناسك.

وفي نفس هذه الآيات سيأتي قول الله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات:١١٢]، فكانت هناك بشرى بولادة الغلام الحليم الذي لم يسم، ثم كانت بشرى بولد آخر وهو إسحاق، وهذه البشرى كانت في الأصل لامرأة إبراهيم سارة، كما في سورة هود في قصة قوم لوط عندما جاءت الملائكة إبراهيم تخبره بما أمرها ربها به بأن تجعل أرض قوم لوط عاليها سافلها عند البحيرة المنتنة من أرض فلسطين، وكانت سارة ترى الملائكة في صورة شباب ذوي نور، فأتاهم بعجل حنيذ مشوي فلم يأكلوا، فنكرهم وبعد ذلك علم أنهم رسل ربه إليه ليخبروه بما أمره به الله من عذاب قوم لوط وجعل أرضهم عاليها سافلها، وامرأته واقفة فضحكت، قال ربنا: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:٧١ - ٧٣] فهذه البشرى كانت لـ سارة من طريق الملائكة.

وأما إسماعيل فكان بشرى لإبراهيم وليس هو ولد سارة، والبشرى بإسحاق كانت لـ سارة.

{فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١].

أي: أن إسحاق سيلد يعقوب عليهما السلام، إذاً: مع ذلك يؤمر إبراهيم بذبحه فلو ذبح وهو غلام قد بلغ السعي -كما قال ربنا في الآية- فمعنى ذلك: أن ما وعد الله به من أنه سيكون له ولد اسمه يعقوب أن هذا الوعد لا يمكن أن ينفذ، ولا يكون.

قال ربنا جل جلاله عن إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:٥٤]، وليس لإسحاق وعد، ولكن الوعد كان من إسماعيل عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:١٠٢]، فوعد أباه بأنه خاضع ومستسلم لقضاء الله وهو يرجو الله أن يصبره.

واستسلم لقضاء الله، وبهذا استحق في هذه الآية أن يشيد الله به، وأن يرفع ذكره وأن يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام مما أصبح وحياً يتلى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:٥٤]، ثم إن إسحاق لم يكن إلا نبياً وكان إسماعيل نبياً رسولاً معاً.

كذلك قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:٨٥].

فوصفه الله في هذه الآية بأنه من الصابرين، وهو الذي صبر على الذبح وعلى الاستسلام لقضاء الله، وعلى رؤيا والده، ولم يذكر لإسحاق شيئاً يصبر عليه، ولم يذكر لإسحاق وعداً ينفذه، كل هذا يدل الدلالة القاطعة في نفس القرآن الكريم، وخاصة وقد ذكر الله في الآيات المتتابعة ذكَر الغلام الذي لم يسم وذكر بعده الغلام الثاني واسمه إسحاق وأنه بشِّر به.

وأيضاً: يقول الله هنا: بأن هذا الدعاء من إبراهيم كان عندما أنقذ الله إبراهيم من النمرود وعاد مكره عليه فكان الأحقر، وكان الأذل والأخزى، وأنجى الله إبراهيم فترك البلاد وهو لا يزال يذكر بأنه شاب فتىً عندما جاءوا بالابن ووجدوا أن الأصنام قد كسرت، وأن الفأس وضعت في عنق كبيرهم أخذوا يتساءلون من فعل هذا؟ فقال قائلون: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠] وصفوه بأنه فتى، وبمجرد ما وقع بينه وبينهم محاورة وأخذ وعطاء كما مضى تفصيل ذلك ذهبوا إلى التعصب لآلهتهم بعد أن عجزوا عن الدليل والبرهان: فأرادوا به مكراً يقول ربنا: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٧٠].

فكانوا الذين خسروا، وكانوا الذين جعلوا في الأسفل والأذل والأحقر، وكان إبراهيم الأعلى، بعد هذا مباشرة سلط الله على نمرود ناموسة صغيرة دخلت في أنفه فأخذت تدخل إلى مخه إلى أن أخذ يضرب رأسه بالحجارة إلى أن انفجر رأسه، وتفتت مخه، وذهب إلى نار الجحيم، ثم لم تطل المدة إلى أن ترك البلاد إبراهيم ولا يزال فتى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:٩٩].

إذاً: فاليقين أن الذبيح هو إسماعيل كما قطع بهذا ابن كثير وكما قطع بهذا البغوي، وكما قطع به الكثير من المفسرين، وكما قطع به ابن السبكي في رسالته القاطعة يقول: لا يمكن أن يكون حسب سياق القرآن أن الذبيح إلا إسماعيل والأمر هكذا.

أسلم يهودي وحسن إسلامه أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فجلس مرة عند عمر فسأله عمر؟ من الذبيح عندكم: أإسماعيل أو إسحاق؟ قال: يا أمير المؤمنين! أما اليهود فتقول: إسحاق، ولكنها كاذبة حسدت العرب أن يكون جدها هو الذبيح المنوه به في كتاب الله، فغيروا وبدلوا ذلك سواء في التوراة أو الإنجيل وقالوا: إسحاق.

وهذا بسند صحيح إلى عمر بن عبد العزيز، وهذا الذي أشاع بين الصحابة وبين التابعين وبين الكفرة: أن الذبيح إسحاق هو كعب الأحبار ووهب بن منبه، ونوف البكالي وكلهم من أصول يهودية، وبعضهم مشتبه في صدق إسلامه، بل إن كثيراً يروون عن كتبهم أشياء لم تذكر ألبتة، وكعب شكك في صدقه جماعة من كبار الصحابة كـ العباس بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام وعمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان.

إذا علمنا هذا والأمر كذلك فالحديث لا يصح سنده وإن كان معناه صحيحاً، وهو أن أحدهم جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: (يا ابن الذبيحين!) فاستجاب له النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه، ولم يستنكر ذلك، وورد عنه أنه قال: (أنا ابن الذبيحين) فهو ابن إسماعيل ابن إبراهيم، والذبيح الثاني: هو أبوه عبد الله بن عبد المطلب.

قالوا: إن عبد المطلب لم يلد له ولد في الأولى فجعل عهداً بينه وبين ربه: أنه إذا ولد له عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً إلى الله، فولد له عشرة أولاد وكان من العشرة: عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام، فأراد ذبح واحد منهم، فجعل بينهم قرعة، فخرجت القرعة على عبد الله وكان عبد الله أحب أولاده إليه، فأعاد القرعة ففي كل مرة تخرج القرعة على عبد الله، وإذا بـ عبد المطلب يقول له عقلاء من قريش: اد