للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)]

يقول تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين ٍ * وَأَبْصِرْهُم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٦].

يذكر جل جلاله بعد أن قص علينا ما عاقب به أولئك الجاحدين الكافرين المكذبين بالرسل وبرسالاتهم، وبالكتب المنزلة عليهم، يذكر ربنا: أنه سبق في علمه، وسبق في قضائه، وسبق في اللوح المحفوظ: أن عباده المرسلين هم المنصورون، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٢ - ١٧٣].

وسبق في علم الله أن العاقبة للمتقين، والنصر للمرسلين، والهزيمة للكافرين.

(سبقت كلمتنا) كلمة الله: هي أمره وإرادته، وكان ذلك في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١] (كتب الله) أي: فرض الله، كتب في اللوح المحفوظ بأن المرسلين الذين يرسلهم من عباده الصالحين مهما قاومهم أعداؤهم ومهما قاومهم الكفرة الجاحدون، فالنصر في الأخير لهم، والكلمة الحقة لهم.

وهكذا عندما قص الله علينا عن قوم هود، وقوم نوح، وقوم ثمود، وقوم صالح، وجميع أولئك، كان النصر بعد ذلك لنوح، وكان لهود، وكان لصالح، وكان لموسى وهارون، وكان لإبراهيم.

وهنا سؤال مهم: يقول: الحسن البصري: ما سبق أن قتل رسول من رسل الله، تصديقاً لقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٢].

السؤال

هل هناك تعارض بين هذا الكلام وبين مقتل يحيى وزكريا؟

الجواب

لا يوجد تعارض؛ فالله تعالى لم يقل: (الأنبياء) ولكن قال: (المرسلين) وهم الذين يحادهم أعداؤهم المرسلون إليهم، وهم الذين أمروا بأن يبلغوا رسالة الله بين قوم جاهلين، وبين قوم وثنيين، وهم الذين يكون بينهم وبينهم أخذ وعطاء، وحرب وقتال.

وأما الأنبياء فليسوا كذلك: فالنبي لم يؤمر برسالة يؤديها لغيره، وإنما هو عبد لله أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: عبد أوحي إليه برسالة ليبينها للناس.

فالرسول من قبل الله برسالته وبدينه وبكتابه هو الذي يحتاج إلى كفاح وإلى أخذ وعطاء، وإلى حرب تكون تارة له وتارة عليه، وتكون الحرب سجال: فيوم له ويوم عليه، ولكن الغاية والنتيجة تكون للرسول، والنصر له لا لأولئك الأعداء.

قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:١٧٢]، والنبي لا يحارب ولا يقاوم؛ لأنه لم يكلف بالبلاغ، لم يكلف برسالة، لم يكلف بكتاب، وعلى ذلك فليس هو في حرب، فإن قتلوا فذلك من الظلم، وهذا شأن اليهود أعداء الله في عصورهم السابقة واللاحقة، فقد حاولوا قتل عيسى، وحاولوا صلبه، ولكن الله أنقذه منهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧]، لكن النصارى واليهود في الأرض قبلوا هذا الكذب، وهذا الإفك، كما كذب من زعم صلبه وقتله.

وحاولوا قتل نبينا عليه الصلاة والسلام وسمموه، وبقي ثلاثة أعوام منذ غزوة خيبر وهو يقول: (لا تزال أكلة خيبر تعاودني حتى قطعت أبهري)، جاءته امرأة يهودية وقدمت له طعاماً وسممت الذراع لعلمها أنه يحبه عليه الصلاة والسلام، وكان معه صحابيان، فمات الصحابيان من حينهما، والنبي رفع يديه من اللقمة الأولى عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد أخبرتني هذه الذراع بأنها مسمومة)، ولكن السم سرى في جنبه وبقي يتأثر به ثلاث سنوات متصلة؛ ولذلك كانت تقول السيدة عائشة: جمع الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بين الشهادة والموت على فراشه.

ومرة وهو في حصن من حصونهم، حمل أحد اليهود صخرة وأراد أن يرميها على رأسه عليه الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك نصره الله عليهم، كما نصر رسله السابقين، وهذا مصداق قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:١٧٢]، أي: على أعدائهم، منصورون بالدليل، ومنصورون بالبرهان، ومنصورون بالحجة، ومنصورون بالحرب والقتال، والعاقبة لهم، والعقاب المبين لأعدائهم: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٢ - ١٧٣].

والجند: المجاهدون في سبيله من المهتدين بكتاب الله، فهؤلاء هم الغالبون لأعدائهم، هم المفضلون في رسالاتهم، بالمعنى والحس، بدليل وبرهان وحجة، فالنهاية والعاقبة دائماً لهم مهما أوذوا وحوربوا.

وهكذا عندما نتتبع سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، في حربه معهم، سواء في مكة بلدته ومسقط رأسه الشريف، أو عندما انتقل إلى المدينة، وسواء عندما حاربهم وحاربوه، هاجمهم وهاجموه، بعض المعارك كانت على المسلمين، وبعضها كانت لهم، وكانت العاقبة في النهاية له، وكانت المعركة الفاصلة هي معركة بدر، حيث أذل أعداءه، وقتل زعماءهم، وأسر كفارهم، إلى أن دخل مكة منتصراً مظفراً، وهم يرتل نشيد الفتح: (الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).