للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال العلماء في معنى الروح]

قال الله جل جلاله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:٤٢].

يخبرنا جل جلاله بأن النوم وفاة، وأن الموت وفاة، يقول الله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)) أي: الله يستوفي أجلها وحياتها، فالتي ماتت يمسكها ولا يعيدها، والتي سبق في علمه أنها ستبقى يرسل لها روحها إلى أجل مسمى عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (النوم كالموت والصحو كالبعث)، ونحن عندما ننام كأننا متنا، فهو شبيه بالموت من حيث فقد الشعور والإحساس والإدراك، واستيقاظنا من نومنا كالبعث عند القيام للحشر والعرض على الله.

واختلف علماؤنا: هل النفس هي الروح أو الروح مختلفة؟ ظاهر القرآن يدل على أن النفس هي الروح، وأن الروح هي النفس، قال تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا))، فقد ذكر كل ذلك موتاً سواءٌ كان عند الموت التام أو عند النوم.

وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥].

وذهبوا يتكلمون عن الروح ما هي؟ فقالوا: هي جسم لطيف أشبه بذات الإنسان طولاً وعرضاً، وأشبه بصفات الإنسان المرئية.

ولكن هذا كلام قالوه والقرآن يخالفه، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الروح كما يقول ربنا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].

فالله قد استأثر بعلمها.

فلذلك قال ربنا: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) أي: لم نؤت من العلم على سعة علوم البشر وكثرتها وتنوعها وتفننها إلا القليل.

وقصة موسى والخضر تؤكد ذلك وتزكيه، عندما سئل موسى: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فقال الله له: بل عبدنا الخضر، فرجا ربه وضرع إليه ليجمعه به، وليتعلم من علمه، وإذا به قطع البراري والقفار، والشواطئ والصحاري، من صحراء فلسطين إلى طنجة؛ حتى بلغ مجمع البحرين: البحر المحيط والبحر الأبيض، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، فوجد موسى الخضر عليهما السلام فسأله أن يعلمه من علومه، فقال: إنك لا تصبر على ذلك، قال: بلى، فاشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، إلى أن جمع معه ثلاث قصص وثلاث قضايا فكان موسى في عقب كل قصه يستنكر ما رأى.

وفي الثانية: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:٧٦].

وفي الثالثة كذلك انتقده وعابه، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨] أخذ يحدثه بحكم ذلك وتفسيره، وأخبره بالمغزى من القصة كلها، وقد وقف طائر على شاطئ البحر، وأخذ قطرة من الماء، فقال الخضر: يا موسى! أرأيت هذه القطرة يأخذها هذا الطائر، ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق إلى علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر.

وذاك معنى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:٢٧] أي: لو أن بحار الأرض جميعها وخلفها مثلها كانت مداداً، وكانت الشجر أقلاماً لجفت البحار والأقلام، ولا ينفد علم الله بحال.

فالذي أخذه المفسرون وعلماء الفلسفة وعلماء الكلام في تعريف الروح هو ضرب من الظن ورجم بالغيب، إذ ليس الأمر كذلك، فالله لم يطلع أحداً على معرفة الروح، وكل ما نستطيع قوله هو ما يتعلق بأثرها، فمن كان فيه روح يتحرك، ويتنفس، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب فكل ذلك أثر من آثار الروح وليست الروح نفسها.

قال عمر رضي الله عنه -وفي المجلس علي وجماعة من الصحابة: عجبت لأمر الرؤيا يرى الإنسان الرؤيا في منامه لم تكن تخطر له على بال في عالم الصحو واليقظة، فإذا به يصحو وكأنه يلمسها بيده، فقال له علي: أتعلم مغزى ذلك وحكمته؟ قال: لا، قال: قوله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)) يحصد أروح النائمين كل ليلة؛ فتجتمع في الملأ الأعلى فتتذاكر وتتحاور، فما دامت في السماء يرى الرائي -وهو النائم ولم يقدر بعد أخذ روحه منه- فتلك الرؤيا صادقة ترى في السماء، تراها روحه، وتتحدث بها، فعندما تعود للجسم تتحدث وتكون رؤيا صدق، وما تحدثت به ورأته في منامها وقد نزلت وقد جاءت فتكون رؤيا كاذبة من الشيطان، فعجب عمر، وقد قال مثل ذلك ابن عباس وسعيد بن جبير وآخرون من السلف صحابةً وتابعين رضي الله عنهم.

قال الله تعالى: ((فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)) أي: يتوفى الأنفس، ويستوفي حياتها وأيامها، وتكون عنده في الملأ الأعلى، فالذي قضى في سابق علمه نهايتها يمسكها إليه، ويرسل الأخرى التي لم يقض بعد بموتها، فتعود للبدن إلى أجل مسمى عند ربنا، فيعيش سنة أو مائة أو أقل أو أكثر، ويعلم ذلك الله جل جلاله.

ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين والسنن يقول: (إذا أراد أحدكم أن يدخل في فراشه فلينفض داخلة إزاره، فهو لا يدري ما خلفه بعده، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).

ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننام جهة اليمين، وأن نضع الكف اليمنى تحت الخد الأيمن، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وأن ندعو بهذا الدعاء: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها وإذا أنت أرسلتها فاحفظها) أي: احفظها من الذنوب والآثام إلى أن تقضي بأخذها.

قال تعالى: ((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ)) أي: إلى وقت مسمى وزمن معين عنده جل جلاله.

قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) إن في أخذ أرواح النائمين وأرواح الموتى وكيف يصنع ربنا ذلك لعلامات دالة على قدرة الله، وعلى انفراده بالقدرة والوحدانية، وعلى أنه القادر على كل شيء وأن غيره لا يقدر على شيء، وأنه لا شريك له سبحانه.

فقوله: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) أي: لعلامات لكل متفكر في قدرة الله، ولكل واع مؤمن، وفي الأثر: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله)؛ إذ ذات الله لا تسعها العقول ولا تصل إليها، وكل ما خطر على بالك فالله يكون مخالفاً لذلك.