للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نسبة الفضل كله لله]

وهناك سجود الشكر وسجود التلاوة، وأين صلاة الشكر؟ قالوا: -وهذا مختلف فيه، ونعتبره صحيحاً في كلا الخلافين- لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً مظفراً، وهو على غاية ما يكون من الأدب مع ربه مطأطئاً رأسه، تكاد لحيته الشريفة تمس غضروف الناقة، أدباً مع الله وخضوعاً لجلاله، لا كهيئة الملوك والأباطرة والفاتحين، فعندما يدخلون مدينة فاتحين منتصرين على عدوهم يركب أحدهم فرساً أو جواداً يتراقص به، وقد يعلم الفرس الرقص، فيدخل به الفرس وهو يرقص، ثم يخطبون مهددين وموعدين ومنتقمين.

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ناقة مطأطئاً رأسه، جاء وهي تقفز به، ليس فيها رقص ولا تيه ولا تعاظم، دخل عليه الصلاة والسلام وهو ينشد نشيد الشكر والوحدانية لله سبحانه، متجرداً عن كل عمل له، بل نسب الفضل لله، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده).

جاء هذا النصر بعد لغب وبعد ثمان عشرة سنة من تحملات النبي عليه الصلاة والسلام لعداوة أعدائه ومكائدهم، وإيذاء أعدائه، وهيأ لهم وأعد وحاربهم حروباً بعد أن هاجموه في المدينة المنورة.

ثم عندما دخل مكة فاتحاً لم ينسب لنفسه شيئاً، بل الكل جعله لله، وجعل نفسه في يد الله يصرفها كيف شاء، وذلك من باب قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]، ومن باب قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمد يده للبيعة، وكان هو الذي يرمي، ولكن بما أن الأمر من الله، وهو تنفيذ لإرادته سبحانه، نسب الأمر كله إلى ربه سبحانه.

فالحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدباً مع ربه دخل مكة ولم ينسب لنفسه شيئاً: لا قتالاً ولا جهاداً ولا نصراً ولا عملاً، ونسي كل ما جرى عليه من قطيعة، وهجوم وحرب، وإخراج من بلده، وإجاعة وشتيمة، ورجع يحمد الله على أن كانت النهاية النصر والعزة والظفر، وهكذا عليه الصلاة والسلام لم ينسب لنفسه شيئاً، ومن هنا قال الحكيم العارف بالله: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.

فنحن نصلي ونصوم ونحمد الله على ذلك، ونرجوه الثبات حتى لقائه، ومع ذلك ألهمنا ووفقنا وهدانا لذلك، ثم سيجازينا عليه كرماً وفضلاً منه.

وهكذا كانت حال رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة فاتحاً، وبعد الفتح خطب خطبة وهو مستند على ظهر الكعبة، فجاءه أبو شاه وهو عربي فقال: يا رسول الله! مر لي بأن تكتب لي خطبة الفتح هذه، فأمر بكتابتها له، ودخل بيت أم هانئ وصلى ثمان ركعات، فذهب الذين رأوا الصلاة أو بلغتهم عن أم هانئ وقالوا: هي صلاة الضحى، وهناك من قال: هي صلاة الشكر، حيث نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنجز وعده، ونصر جنده، وهزم عدوه، وحيث حقق جميع ما وعد به نبيه عليه الصلاة والسلام.

ومن قال: هي صلاة الضحى حجته أنها كانت في وقت الضحى، أي: بعد الإبكار وقبل الزوال والظهر، وهي صلاة الشكر لأنها كانت عقب الفتح.

وعلى ذلك فصلاة الضحى عندما تصلى يوماً في هذا الوقت فهي صلاة في وقت الضحى، وهي شكر لله الذي أكرمه بالنصر والفتح، وهزيمة عدوه.

ولذلك أخذوا من هذه صلاة الشكر، وقد سنها النبي عليه الصلاة والسلام بفعله وعمله عندما صلى في بيت أم هانئ ثمان ركعات.

وكانت صلاة الشكر في هذه الفترة متمثلة بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر:٥٥] أي: احمد ربك واشكره على ما أعطاك وأكرمك به، وأنجز وعده وحقق مراده فيما كنت ترجوه وترغب إليه، كما سبق أن بشره الله تعالى وهو مسافر مهاجر إلى ربه بالمدينة، وقد وصل للجحفة -وهي رابغ كما نقول لها اليوم- فأنزل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:٨٥].

فكان وعداً من الله له بأنه قد أعاده إلى معاد، فلما خرج من مكة عاد إليها فاتحاً ولها مالكاً، مكسراً أصنامها مذلاً كفارها.