للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله)]

قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٥٦].

يوبخ ربنا جل جلاله ويذم من يجادل في كتاب الله، وفي معجزات الأنبياء، وفي قدرة الله وانفراده بالوحدانية، يجادل بالباطل ليبطل الحق ويحق الباطل بغير علم ولا فهم ولا إدراك ولا سلطان ولا دليل ولا برهان، وإنما يفتحون أفواههم زعماً منهم أنهم يفهمون الكلام والدليل والبرهان، وما هم إلا يهلكون فيما لا يعرفون، فكأن الله يقول: هؤلاء عندما يفعلون ذلك يقصدون شيئاً آخر: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦] أي: ما في صدورهم إلا كبر واستعلاء وتعاظم على الحق، وقيل: إن هذه الآية نزلت لأجل اليهود الذين كانوا يمنون أنفسهم بالغلبة على الإسلام وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، متمنين أن يكون آخر الأنبياء هو من بني إسرائيل، وكان ذلك منهم مجرد توهم وظن.

فعندما جاء نبي الله من غير بني إسرائيل تعاظموا وتكبروا واستعلوا على الحق، وهم في ذلك يجادلون بالباطل، وكذلك كانوا منذ هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، فقد أخذوا يتواردون عليه صباحاً ومساء يحاولون جداله وحواره بالباطل الذي لا دليل عليه.

وقد قررنا أن هذه السورة مكية إلا بضع آيات، فإن صح هذا السبب في النزول فتكون هذه الآية نزلت في المدينة المنورة؛ لأجل هؤلاء، على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فهذه الآية كانت بسبب اليهود، ولكنها بعد ذلك عمت كل متكبر عن الحق، مستعل عليه، متمن للقضاء على الحق وظهور الباطل ونصرته، فالآية تعمه وتشمله، ويدخل في ويلاتها وعذابها.

والمعنى: أن كل من يجادل في شيء ويخاصم في الحق بلا علم ولا فهم ولا إدراك يكون متعالياً على الحق، ويكون غير مقبول القول والكلام، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:٥٦]، فالخبر عن الأولين واللاحقين، فما عملهم ذلك إلا لكبر في صدورهم، والصدر: موضع القلب، فكأن المعنى: ما ذلك إلا بسبب ما في قلوبهم وضمائرهم من تعال على الحق.

ولكن هذه الأماني التي في أنفسهم وفي قلوبهم ما هم ببالغيها أبداً، وهكذا كان، فما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يرتفع إلى الرفيق الأعلى حتى كان اليهود مطرودين مقتولين مشردين، وحتى أوصى بالبقية الباقية منهم خلفاءه من بعده، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على فراش الموت: (ألا فأخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب).

وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر:٥٦] أي: فاستعذ بالله من هؤلاء، ومن مثل أعمالهم وأشكالهم وأضرابهم، هؤلاء الذين يحاولون القتال والجدال، وأن يظهروا الباطل ليدحضوا به الحق، ويحقوا الباطل كذباً وزوراً وجهلاً ووثنية، فاستعذ بالله منهم ومن عقائدهم، ومن أمثالهم.

وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:٥٦] أي: هو الذي يسمعكم ويسمع تحاوركم، ويسمع المحق منكم من المبطل، وهو البصير جل جلاله، والناظر للصادق منكم والكاذب، وفي هذا تهديد ووعيد لكل من يحاول أن يبتعد عن الحق بالكلام الباطل، والدليل المزيف، والقول بلا دليل ولا برهان.