للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)]

قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:٢١].

أي: بعد ذلك ينطق الله ألسنتهم فيلتفتون إلى الجلود والأيدي والأرجل فيقولون لجلودهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا} [فصلت:٢١]، أي: قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:٢١]، أي: يقولون لهذا الكافر: الله هو الذي أنطقنا وأكسبنا قوة النطق.

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما أنطقكم أنطقنا، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:٢١]، أي: رجوعنا ورجوعكم وخلقنا وخلقكم وقوة نطقنا وقوة نطقكم كانت من الله، فكما أعطاكم القوة للكلام باللسان وخلقكم أول مرة فقد خلقنا وأعطانا قوة الكلام والحديث والشهادة.

وهذه الآية كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥]، أي: يختم الله على أفواه هؤلاء الكافرين، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.

وفي صحيح مسلم والسنن الأربع أن النبي عليه الصلاة والسلام تبسّم فقال لأصحابه: (لا تسألوني لم تبسّمت؟ فقالوا له: يا رسول الله! لم تبسمت؟ قال: عجبت لمجادلة العبد ربه، يؤتى بالمشرك يوم القيامة فيقول لربه: يا رب! ألم تعدني بأن لا تظلمني؟ قال: نعم، ألم يكفك أن أكون عليك شهيداً والملائكة الكاتبون؟ قال: يا رب! لا أجيز علي شهادة إلا من نفسي، فيسكت الله فاه ويخرس لسانه، ثم يقول لجوارحه: انطقي، فتقول اليد: صنع بي يوم كذا كذا وكذا -أي: ضرب بي وقتل، وتناول ما لا يحل له، وتشهد الرجل بأنه ذهب إلى مكان كذا وصنع كذا، ويشهد الفرج بزناه وفساده، وتشهد اليد بالسرقة، ويشهد الجلد بالسكر وبالعربدة وبالعصيان والمخالفة، ثم ينطق الله لسانه فيقول لجوارحه: سحقاً لكن فعنكن كنت أجادل، فيقلن له: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:٢١]).

فلا مفر من الشهادة بالحق، وأما النطق فليس في قدرتنا، ولكن الله الذي أنطق ألسنتكم وشفاهكم رزقنا القوة على النطق فشهدنا، هذا قاله ربنا وأكده نبينا صلى الله عليه وسلم شرحاً وبياناً وتفسيراً لأولئك الذين يشركون بالله ويظنون أنهم يوماً سيكذبون على ربهم ويخفون جرائمهم، وهيهات هيهات، فإنهم يشهد عليهم كُتّاب الله المكرمون من ملائكة الشمال واليمين، بل وتشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم وفروجهم وأفخاذهم وكل عضو من أعضائهم بما كانوا يعملون ويكسبون.