للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (حم * والكتاب المبين)]

سور الزخرف اشتملت على تسع وثمانين آية، وهي إحدى الحواميم التي هي بساتين القرآن وعرائس القرآن وزهرات القرآن، لما فيها من الكلام على الآخرة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الصالحات، وتنفير الناس من الطغاة، والاهتمام بالإسلام ونبي الإسلام والسلف الصالح.

قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:١ - ٢].

فسر بعض العلماء الحروف المقطعة بأنها رموز لأسماء السور بعدها، وفسرها أقوام بأنها أسماء لله ابتدأت بالحرف الأول من حروف الاسم، وفسرها آخرون بأنها أعداد لأحداث مقبلة من خير وشر.

وذكر الزمخشري في الكشاف: أن هذه الحروف التي ذكرها الله في أول بعض السور تعقب دائماً بذكر القرآن الكريم، كـ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:١ - ٢].

{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:١ - ٢] وكوننا نجد سورة لم تكن كذلك فهي تبع لما قبلها، وهذا يدل على أن هذا القرآن معجز، وأنزل على أفصح الناس وأبلغهم.

وكان العرب فصحاء وبلغاء في خطابتهم وفي شعرهم وفي تحاورهم، فعندما ينزل هذا الكتاب عليهم ويتحداهم الله أن يجتمعوا مع الجن فيأتوا بمثله فهذا يدل على إعجازه.

وقد قيل هذا منذ ألف وأربعمائة عام، ولا يزال هذا التحدي قائماً، ولم يستطع أحد أن يأتي بقريب أو بشبيه لأي سورة أو آية منه.

ذكروا عن المعري في كتابه (لزوم ما لا يلزم)، وفي كتابه (طريق الغفران)، وذكروا عن مسيلمة الكذاب أنهما حاولا معارضة القرآن.

أما المعري فأتى بكلام عربي، ومع ذلك يوجد بينه وبين القرآن ما بين الخالق والمخلوق.

وأتى مسيلمة الكذاب بمخاريق وبحماقات وبكلام يضحك لا معنى له، ولا دلالة له، ولا يزال الناس يتضاحكون منه ومن قوله ومن قرآنه.

ومن ذلك: أنه جاءه مرة عمرو بن العاص إلى اليمامة وهي في نجد، وكان عمرو لا يزال على دينه الوثني، فقال: يا مسيلمة! ماذا أنزل عليك اليوم؟ قال: أنزل علي: أن لي نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون.

فالتفت إليه عمرو وقال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.

فهو على وثنيته وعلى عداوته إذ ذاك للإسلام ونبي الإسلام لم يقبل قوله وسخر منه وجابهه به.

والقرآن الكريم كلام عربي، فهو مركب من حروف الهجاء: ألف لام ميم، ألف لام راء، كاف هاء ياء عين صاد، طاء هاء، ياء سين، حاء ميم.

هذه الحروف الهجائية منها تكون القرآن، ومنها ترتب القرآن فاصنعوا إن شئتم مثل ذلك.

وهذا كأن يقول قائل: الإنسان مكون من التراب كما قص علينا ربنا، وهذا التراب فيه حديد ومنجنيز وكربون وسكر وملح وماء، فيقال لآخر: ائت بهذه المجموعة، فأت بقليل من تراب وقليل من ماء وقليل من حديد فاصنع إنساناً إن استطعت.

لا يمكن ذلك، كذلك يقال: هذه الحروف الهجائية التسعة والعشرون حرفاً اصنعوا منها كلاماً يضاهي هذا القرآن، وهيهات هيهات! فالقرآن نزل بلغة العرب وبحروف هجائهم وبقواعدهم في النحو والبلاغة، ومع هذا فالعرب عجزوا عن أن يأتوا بمثل سورة منه، وأصبحوا حيارى زمناً من الأزمان، فيقول قائلهم: هذا شعر، فيجتمع الشعراء ويقولون: درسنا الشعر بكل بحوره بوسيطه وبمتقاربه وبكامله فليس هو بالشعر.

فيقول آخرون: هو سحر.

فيقول السحرة: عرفنا السحر، أشكاله وألوانه فما هو بالسحر.

ويقول آخرون: هو كهانة -أي: عمل الكهان ليأخذوا به الأموال- فيقول الكهنة: علمنا الكهانة وأشكالها فما هو بكهانة.

فيقولون: لم يبق إلا أن محمداً مجنون، وهذا كلام مجنون، وحاشاه من ذلك! وبذلك سقط اعتبارهم، فالمجنون لا يقول مثل هذه الفصاحة والبلاغة، بل وأكثر من ذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام أعطي جوامع الكلم، وهو سيد العرب فصاحة وبلاغة.

فإذا قال كلاماً ونسبه لله فهو القرآن، وإذا نسبه لنفسه نجد أن ما بين بلاغة القرآن وبلاغة النبي عليه الصلاة والسلام كما بين كلام الخالق والمخلوق على الرغم من أنه أبلغ الناس، فأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وخطبه لا تشبه سور القرآن بالفصاحة والبلاغة والإعجاز والتعبد بها.

فالقرآن كلام الله المعجز، وكلام غيره غير معجز بما فيه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم بلاغته وفصاحته وشدة بيانه.

وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:٢] يقسم الله جل جلاله بالكتاب المبين الواضح، البين في معناه وفي قصصه وفي عقائده وفي آدابه، والله جل جلاله يقسم بما شاء كيف شاء، وما أقسم به يدل على شرف ذلك المقسم عليه.

أما الإنسان فلا يقسم إلا بالله، فقد قال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).