للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً)

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:١٥].

هذه الآية في بر الوالدين، وبر الوالدين ذكره الله في كتابه في كثير من الآيات عقب دعوته الناس للإيمان به وتوحيده وطاعته، والأمر بالإيمان بكتبه ورسله، وقد قال ربنا كذلك: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:١٤]، قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:١٥]، وصينا الإنسان أي: أمرنا الإنسان ووجهناه.

ومن هنا نعلم أن كل إنسان سواءً كان كافراً أو مسلماً قد كلف بفروع الشريعة كما كلف بأصولها، ولكن قبول الفروع لا يتم إلا بأصول، فمن لم يقل: لا إله إلا الله ولو صلى وصام وزكى وحج، ولو فعل ما عسى أن يفعله، لن يقبل منه ذلك؛ لأن شرط قبول الطاعة الإيمان بالله أولاً.

قوله: {بِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف:١٥] أي: بأبيه وأمه، أمر الله جل جلاله بالإحسان إليهما.

قرئ: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:١٥]، وقرئ: (حسناً)، وكلاهما قراءتان سبعيتان متواترتان.

والحسن مقابل القبح أي: أن يبر والديه بأحسن الأشياء وبأنبلها وأكرمها، ويبعد عنهما قبيحها ورذيلها، وما لا يليق بهما، ومن الإحسان إلى الوالدين عدم رفع الصوت عليهما، وألا تقول لهما: أف، وهي أقل كلمة تقال.

أما رفع الصوت من قبل الوالدين ومعارضتهما للولد لا تكون إلا في صالحه، والوالدان لا يأمران الأولاد إلا بما يعود عليهم بالخير، فعليك أن تحسن إليهما الإحسان الذي يرضيهما في دار الدنيا، ولا تعصي أحدهما ما لم يأمر بشرك أو يأمر بمعصية.

وهذا مثل قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥].

فالأبوان لا يُعصيان إلا إذا أمراك بالشرك أو بمعصية الله، حينها لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا يطاع حاكم ولا شيخ ولا والد ولا أم إن هم أمروك بمعصية الله، وبالخروج عن طاعة الله، كأن تقول لك زوجتك: لا تصل ولا تصم، وكأن يأمروك بالكفر والشرك، فلا طاعة لهم، بل ولا بيعة لهم ولا كرامة.

أسلم سعد بن أبي وقاص وبقيت أمه كافرة، فقالت له: ألم يأمرك دينك بالبر بي وطاعتي؟ قال: نعم.

قالت: رأسها من رأسه حرام وألا يظل سقف رأسها ما لم يكفر بمحمد وبدين محمد، فقال لها: يا أماه إلى هنا فلا طاعة، والله لو بقيت دهراً تحت شمس تحرقك، ولو بقيت في مجاعة تقتلك، أو عطش يخنقك لما رجعت عن إيماني بالله، وإيماني بمحمد رسول الله، فقدمي أو أخري، وإذا بها بعد قليل تقول: ما ثبت ولدي على هذا وهو الذي عودني البر والطاعة إلا لأنه الدين الحق، فأنا كذلك مع ولدي، فقالت: أشهد أن لا إله ألا الله، وأن محمداً رسول الله، ولذلك فإن الثبات على الأشياء لا يأتي إلا بالخير، والتزعزع والتذبذب لا يأتي على الإنسان إلا بشر.

فقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:١٤]، أي: أوصى الله الإنسان أن يحسن لوالديه إذا استطعماه واستسقياه واستسكناه، وفي كل ما يتعلق بأمور الدنيا، ومن باب أولى إذا أمراه بالمزيد من الطاعة والتهجد والعبادة والصدقات، فطاعتهما في هذه الحالة يصبح براً، وهو في الأصل طاعة لله وامتثال لأوامره، فيجتمع بذلك طاعة الله وبر الوالدين.

قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:١٥]، أي: وللأم زيادة على الأب في ذلك، الأب أنزله لذة، والأم حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وعاشت دهراً وهي تتعب نفسها معه وليداً وحابياً وصغيراً، إلى أن أصبح شاباً يافعاً، وأصبح إنساناً قوياً، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام عن الأم: (الجنة تحت أقدام الأمهات).

ولها قراءتان القراءة الأولى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف:١٥]، والقراءة الأخرى: (كَرهاً) والمعنى واحد، أي: حملته تسعة أشهر، وهي تجد وحمه وثقله وغثيانه ووجع الرأس الناتج عن حملة، وتفتقد صحتها إلى أن يولد، وفي الولادة يشتد وجعها ومخاضها، وقد يبقى أياماً وقد يبقى ساعات، ولا يكاد يخرج منها حتى ترى الموت أمامها.

فلهذه المشقة ولحملها به وولادتها له أمر الله بمزيد العطف والعناية بالأم، وللأب طاعة مطلقة، إذ هو الذي يربيك ويعلمك، فالأم تعيش معك بالعاطفة، والأب يعيش معك بالعقل والمنطق، فلو تركت لأمك لما حضتك على دراسة ولا على شيء يشق عليك، ولأصبحت جاهلاً لا تعرف شيئاً من أمور دنياك ودينك.

أما الوالد فيشرف عليك مع محبته لك والعطف عليك، لكنه يغلب عليه جانب القسوة؛ ليكون ذلك أقوم لنشأتك ولتربيتك، ولتكون إنساناً تعرف أمور دنياك فلا تحتاج إلى أحد، وفي آخرتك يرضى عنك ربك ويدخلك جنته.

قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥]، أيضاً هذا متعلق بالأم.

يروى أن الإمام علياً كرم الله وجهه بلغه أن عثمان بن عفان يريد رجم امرأة ولدت لستة أشهر، فأقبل على عثمان فقال: يا أمير المؤمنين! ألم تقرأ كتاب الله؟ قال: بلى، قال: اقرأ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥]، وقال الله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:٢٣٣]، فـ علي رضي الله عنه أخذ الدليل من نصين من كتاب الله، إذا كان الرضاع حولين كاملين، أي: أربعة وعشرين شهراً، فإنه سيبقى من مجموع ثلاثين شهراً ستة أشهر، وهذا دليل على أن المرأة تلد لستة أشهر، وكانت المرأة التي أراد عثمان رجمها تبكي، وتقول: لا والله ما مسني أحد من خلق الله إلا زوجي، وهم يقولون لها: لا تلد امرأة لستة أشهر، لكن القرآن يقول ذلك، ولا يقول القرآن إلا حقاً.

قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:١٥]، أي: حمله وفطامه من الرضاعة ثلاثون شهراً.

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:١٥].

يتدرج الإنسان في الشدة والقوة من السنة الثامنة عشرة إلى الأربعين حيث تكتمل رجولته وقوته.

فقوله: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف:١٥]، أي: بلغ قوته وقدرته ورجولته، وقوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:١٥] أي: بلغ مبلغ الرجال الأقوياء الذين بلغوا شدة رجولتهم وشدة قوتهم.

يعني: حتى إذا بلغ هذه الرجولة وهذه القوة أخذ يدعو ربه ويقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:١٥] أي: ألهمني، رب ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [الأحقاف:١٥] أي: أن أشكرك على ما أنعمت به علي من إيمان وإكرام وعطاء وغير ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤].

قوله: {وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف:١٥]، بأن جعلهما مؤمنين صالحين، إذ ربيا أولادهما على الإيمان والإحسان والأخلاق الفاضلة، فهو يشكر الله لنفسه، ويشكر لأبويه، قوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف:١٥].

أي: ويرجو من الله أن يلهمه أن يدعو الله بأن يعمل صالح الأمور التي يرضاها عنه، لا التي ترضاها نفسه، أو يرضاها هواه، أو يرضاها فلاسفته، أو الضالون المضلون من أدعياء العلم والفلسفة، بل يدعو الله أن يعمل الصالح الذي يرضاه الله عنه، من صلاة وصيام وزكاة وحج، وترك للمنكرات ما بطن منها وما ظهر.

قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:١٥]، وهذا شأن من يتزوج في أول شبابه، حتى إذا بلغ الأربعين سنة قال: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:١٥] أي: اجعل الصلاح والهداية والإيمان فيهم، بأن يكونوا جميعاً موحدين مؤمنين بك رباً وبنبيك رسولاً، وبالكتاب المنزل عليه حكماً {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأحقاف:١٥]، وهذا شأن الإنسان حين يكبر ويكبر أولاده ويأتي أحفاده، إذ يكون قد أدى مهمته في هذه الحياة، ويوشك أن يدعى فيجيب، ومن اللائق بالمؤمن أن يبادر بالتوبة، وهو على أبواب الدار الآخرة ليكون آخر عمله توبة، والاستغفار والندم على ما فات علمه أو لم يعلمه.

قوله: {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:١٥]، أي: من الذين استسلموا لك، فقد أسلمت وجهي إليك، لا منجى ولا مفر إلا إليك، أنت خالقي، وأنت رازقي، منك أطلب العون والمغفرة.