للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المعاني المفهومة من قصة النفر الذين استمعوا إلى القرآن]

وهذه الآيات الكريمات لها معان أخذت من فصل الخطاب ومن مفهوم الكلام: أولاً: فهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو رسول الله إلى البشر كافة كذلك هو رسول الله إلى الجن كافة؛ وهذا صريح القرآن، وقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] خُلق الجن للعبادة كما خُلق الإنس بعدهم، ولا عبادة بغير علم ولا علم إلا برسول، وإلا كان ضرباً من الخط ومن الرجم بالغيب ما لم يكن ذلك حقيقة عن وحي من الله بإرساله رسله وإنزاله كتبه.

ونفهم من الآية أن في الجن منذرين ينذرون ويدعون، ومن العلماء من قال: ليس في الجن رسل، مستدلين بقوله الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف:١٠٩] فالله تعالى ما أرسل من الرسل إلا الرجال، والرجال بشر، إذ لم يرسل امرأة رسولاً ولم يرسل جناً إلى أقوامهم، وهذا فهموه استنباطاً، وليس هذا بصريح القول؛ لأنهم قالوا: من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام أنه أرسل للجن كما أرسل للإنس، والرد على هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فلما خلقهم للعبادة علمهم هذه العبادة، ولا يكون هذا التعليم إلا بإرسال رسل منذرين ومبشرين، وبكتب يأتون بها من الله تعلِّم وتهذّب.

ثانياً: هذا كان إخباراً من الله لنبينا عليه الصلاة والسلام، والسورة مكية، إذ لم يعلم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي، وقيل: كذلك أخبرته الشجرة التي صلى عندها الصبح، ولكن الله أخبرنا بأنه أوحى إليه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:١] ولكن كما تتابعت الأخبار وتتابعت الأحاديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عبد الله بن عباس وعن الزبير بن العوام وأكثر الروايات عن عبد الله بن مسعود أن الجن بعد ذلك تتابعت ووفدت على رسول الله عليه الصلاة والسلام من ذي نوى في أرض العراق، ومن أقطار الأرض المختلفة، جاءت أفراداً وجاءت مئات وجاءت آلافاً يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاحاً وجهاً لوجه حديثاً مع حديث أذناً لفم، وقد حكى ابن مسعود ذلك قال: (قال عليه الصلاة والسلام: من يذهب معي إلى وفد الجن؟ فلم أكن إلا أنا فذهبت معه، وإذا بي أصل إلى مكان فيخط لي خطاً ويقول لي: لا تتجاوز هذا المكان بحال فجلست امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتقدمني ويبعد حيث لا أراه وإذا بي أرى أثوبة وأرى ضجة وأرى حركة وأرى أشياء تطير كأنها النسور مقبلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها دوي كدوي النحل، فأخذني الفزع علي وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكدت أذهب إلى رسول الله، لو أني تذكرت أن النبي أمرني بألا أتجاوز هذا المكان الذي خطّه لي، وبعد زمن طال أو قصر جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال: هل عندك من وضوء؟ فوجد عنده ماءً نبت فيه تمر، فأخذه وقال: ماء وطهور وثمرة من الله، فتوضأ به) وهذا ما يعتمد عليه الحنفية من جواز الوضوء بالماء إذا تغير أحد صفاته الثلاثة لوناً أو طعماً أو ريحاً، ولكن هذه الزيادة أكثر أئمة الفقه وأكثر الحفاظ من أئمة الحديث لا يصححونها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (جاءوا إليّ وحكّموني في قتيل لهم فحكمت لهم بالحق، ثم سألوني طعاماً فأمرت لهم بكل عظم وكل شعرة وكل روث، فلا تستنجوا بعظم ولا روث ولا بعر فقال ابن مسعود له: وماذا يغنيهم هذا يا رسول الله؟! قال: هذا العظم عندما يصبح طعامهم يعود لحمه الذي كان عليه كما كان أولاً).

فالبعرة والروث يعود لهم حبه قبل أن تأكله الدواب كما كان من قبل وذاك يكفيهم، وحصل هذا في مكة المكرمة ولعله قرب المسجد الذي يسمى اليوم مسجد الجن، وحصل هذا في المدينة المنورة عند مقبرة بقيع الغرقد، وحصل هذا عند النخلة عند عكاظ في الطريق إلى الطائف، هذا ما روي، وقد يكون ذلك من تتابعهم وتكاثرهم لأنهم أمة النبي عليه الصلاة والسلام كأمم الإنس، فهم بحاجة لأن يترددوا عليه وأن يسألوه عن عن الحلال والحرام وعن آداب هذا الدين وأخلاقه، فكان الاجتماع الأول إخباراً من الوحي لم يدر به عليه الصلاة والسلام جاءوا فاستمعوا إلى القرآن ولم يظهروا بذواتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بعد ذلك اجتمعوا إليه وحدّثوه وخاطبوه.

والجن ثلاثة أصناف: جن يطير كما يطير الطائر، وجن يتكيف ويتلون كالحرباء، وجن يكون على شكل الأفاعي والحيات وما إلى ذلك من الهوام والحشرات، وإذا شك إنسان في شيء من هذا إن لم يؤذه ينصرف عنه، وإن آذاه فليتعوذ بالله ويبعده عن أذاه ولو بالقتل، وعلى نفسها جنت براقش والمبتدئ ظالم، وإنما فعل الإنسان ما فعل دفاعاً عن نفسه ودفعاً للظلم الذي حصل له.

فقوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١] أي: آمنوا بالله واحداً لا ثاني له، وآمنوا بمحمد العربي التهامي نبياً رسولاً من الله، آمنوا بهذا القرآن أنه كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن أنتم فعلتم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١] وسئل الأئمة المجتهدون وغيرهم: هل الجن يدخلون النار ويدخلون الجنة كالبشر؟ فقال أبو حنيفة: الإحسان للجن المسلم أن ينجيه الله من العذاب وأن يغفر ذنبه ثم يصبح تراباً بعد ذلك ولا يدخل النار، واستشهد بهذه الآية: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١] ولم يقل: يدخلكم الجنة، ولكن الله قد قال هذا في الآيات عن البشر أيضاً، وذكر الإنقاذ من النار كما ذكر الإنعام بالجنة، وليس إلا الجنة والنار، فقال مالك وقال الليث وقال الجمهور: بل يدخلون الجنة ويتنعمون كما يتنعم الإنس، وقالوا كلاماً مفهوماً لا مستند له لا من آية ولا من حديث ولكن ما يفهم من ظواهر القرآن وظواهر السنة أنهم يدخلون الجنة وينقذون من النار، ويعذب في النار من عصى الله وكفر به، ودليل مالك: قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٣٩].

فهذه الآية ذكرت الجن في الجنة، وذكروا مع الحور كذلك، وهذا دليل مقبول، وهو حجة مالك والليث وكفى بهذه الآية حجة.