للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهم بنود صلح الحديبية]

لقد بعثت قريش سهيل بن عمرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: (قد سهل لكم أمركم)، ثم اتفقا على قواعد الصلح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليكتب الكتاب، فأملى عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبسم الله الرحمن الرحيم في لغة الإسلام تساوي باسمك اللهم، أي: باسمك يا ألله! أفتتح كتابي، وماذا يضر لو بدّل بسم الله الرحمن الرحيم ببسمك اللهم؟ فتلك كانت معارضة حرفية من قريش لا تدل على فهم ووعي، وكان ذلك من سعة صدر رسول الله عليه الصلاة والسلام وفهمه الأمور كما هي، وكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر علياً بذلك، فامتنع علي، وهذا فيه أنه التزم الأدب ولم يلتزم الطاعة، وهكذا عند أصحاب الرقائق وأصحاب الآداب إذا اجتمع أدب وطاعة يقدّمون الأدب على الطاعة، ثم محاها رسول الله بيده.

وكون قريش والدنيا كلها لم تعترف بمحمد رسول الله ماذا عسى أن يكون؟ فهو رسول الله حقاً أكد ذلك الله جل جلاله وصدّقه، وأرسل معه ملائكته وعززه بجبريل، وأوحى إليه بالقرآن وسانده وعززه وقواه ونصره على أعدائه، فلا يضيره ولا يضير المسلمين ألا يعترف سفير قريش بأنه رسول الله، وفي مستقبل الأيام سيسلم هذا السفير وسيكون أحد كبار الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله.

قالوا له: من جاءك أرجعته ومن جاءنا لا نرده، أي: من جاء رسول الله فإن الرسول يرده، والمسلم مسلم حيث أسلم في أي بقاع الأرض، وما دام قد قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله سواء كان في مكة أو كان في المريخ أو كان في الأرض السابعة فهو مسلم، وسواء اجتمع برسول الله وسمع منه أو لم يسمع.

وهانحن - ولله الحمد - جئنا بعد رسول الله بألف وأربعمائة عام وكوننا لم نجتمع برسول الله ما ضر هذا ديننا ولا إسلامنا ولا اعترافنا، فنحن مسلمون مؤمنون وملتزمون بالشهادتين، ثبتنا الله على ذلك إلى لقائه.

ومن جاء من عند رسول الله لا يردونه؛ لأنه لا يترك الجيش النبوي ويذهب إلى المشركين إلا مرتد، وماذا عسى أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد ارتد؟ فلو عاد إلى المسلمين فإما أن يُجبر على الإسلام أو يُقتل ولا يستفيد المسلمون منه شيئاً.

إذاً: فالمعاهدة كانت ضحكاً على قريش واستهتاراً بهم واستبلاداً لهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد النظر جداً فلم يرد أن يذكر أسرارها، وقد خفيت على أصحابه، فلو كشفها لسمعها أعداؤه وزالت فائدتها ونتيجتها وحكمتها وما يراد منها.

وفي المعاهدة: أن الهدنة بين المسلمين والكفار كانت عشر سنوات، وأنه يدخل مع محمد من شاء من القبائل ومع قريش كذلك، فأفسح المجال في هذه المدة ولم تمض على المعاهدة إلا سنتان حتى غدرت قريش، وكانت الكارثة عليها في هاتين السنتين، فقد انتشر الإسلام فيها انتشاراً عظيماً لم ينتشر قبله منذ بدء الإسلام: منذ اثني عشر عاماً في مكة وست سنوات في المدينة، أي: منذ (١٨ سنة)، فعدد الذين أسلموا في تلك السنتين كان أكثر من جميع من أسلم خلال السنوات الطوال الماضية.

قال ابن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للعمرة ومعه (١٤٠٠) رجل، وفي السنة الثامنة بعد أن غدرت قريش بخزاعة التي كانت من أحلاف رسول الله، وكان ذلك منهم غدراً ونكثاً للعهد، دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً بعشرة آلاف مقاتل، ومعظمهم من الذين آمنوا خلال هاتين السنتين من معاهدة الحديبية إلى سنة فتح مكة.

فقد أُفسح المجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله بلا صد ولا معارضة.

وأما العمرة فلم تكن واجبة ولم تكن فريضة، وكون النبي لم يعتمر تلك السنة فقد اعتمر في السنة الثانية، فنشأ عن هذه المعاهدة نصر للمسلمين ولرسول الله معزز مؤزر لم يكن في جميع المعارك التي مضت حتى ولا في غزوة بدر.

والشرط الذي قالوا: من جاء إلى رسول الله فإنه يرجعه، فكان نتيجة ذلك أن انقلب هؤلاء عليهم وقطعوا الطريق عليهم وحاربوهم ورسول الله غير مسئول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم من حيث المعاهدة ما زالوا على عهدة قريش، وقد فروا منهم وليس رسول الله مسئولاً عنهم.

فكانت معاهدة الحديبية أول معاهدة عاهد فيها رسول الله أعداءه، فكشفهم واستصغر عقولهم، وكانوا بلداء في الفهم قصيري النظر في الإدراك، وكان رسول الله أعظمهم فهماً وبياناً.

وقبل سنوات دُعيت إلى القاهرة لإلقاء سلسلة من المحاضرات في الدبلوماسية والسياسة النبوية في حروبه ودولته وجيوشه، فتكلمت عن هذه المعاهدة أياماً طوالاً، وكان يحضرها السفراء والوزراء المفوضون والدبلوماسيون من رتب كبيرة وصغيرة فبُهتوا وفتحوا أفواههم، هل هذا يوجد في المعاهدات النبوية؟ فهم لم يدركوا ذلك، ولن يدركوه؛ لأن الإسلام ما عاد يُدرك في الجامعات ولا المعاهد، ولا في معاهد العسكريين والسياسيين، فقد قطعوا بينهم وبين الإسلام البتة؛ ليسهل عليهم تنقيص الإسلام في صدورهم، وإبعادهم عن دينهم وعن نبيهم، فقد أصبحوا جهلاء في دينهم وتاريخهم، وأصبحوا أكثر جهلاً من أعداء الإسلام يهوداً ونصارى ومنافقين.

هذه المعاهدة وأسرارها لا تنتهي وستبقى المثال العالي لكل سفير مسلم، ولكل وزير مفوض مسلم، ولكل سياسي مسلم.