للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا)]

قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:١٤].

قلنا في بداية القصة: إن هؤلاء الفتية كانوا أقارب للملك دقيانوس، فاجتمع كل منهم إلى غيره حتى صار عددهم ثمانية، واتخذوا معبداً يعبدون الله فيه، وينفردون عن أولئك الذين يعبدون الأوثان والأصنام والحجارة، وبلغ دقيانوس خبرهم فكاد يجن، فأرسل إليهم، فلما وقفوا بين يديه وهم شباب أحداث ربط الله على قلوبهم، ورزقهم قوة ويقيناً، ورزقهم شجاعة، فأعلنوا دينهم، وأعلنوا عقيدتهم، بل دعوا دقيانوس إلى التوحيد وعبادة الله.

فقاموا بين يدي دقيانوس عندما دعاهم وأخذ يقول لهم: كيف تركتم ديني وآلهتي واتخذتم لأنفسكم إلهاً غير الإله الذي أعبد؟! فقاموا بين يديه في ثبات ويقين، وكان قد أوقفهم لينذرهم وليتوعدهم بالبطش والرجم وقطع الأيدي والأرجل، فلم يهابوه ولم يخافوه، وقالوا له وهم قائمون بين يديه، وقد كان يظن بهم الهلع والجزع والخوف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:١٤].

أي: ليس الإله الحق ما تعبد يا أيها الملك، فنحن نعبد خالقك وخالقنا، نعبد رب السموات والأرض، وليس هو ربنا وربك فحسب، ولكنه رب الكل، وخالق الكل، فأخذوا يدعونه إلى الله، وترك الأوثان والإشراك في عبادة الله.

وقد قال لهم: اتخذتم رباً دون ربي؟! فقالوا له: لم نتخذ رباً، ولكنه الرب الموجود الأبدي الأزلي الخالد، الأول والآخر، والظاهر والباطن، الذي بيده الأمر، وبيده الخلق، وهو رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:١٤].

فلا تنتظر ذلك منا، و (لن) لتأبيد النفي، فخذ يقيناً منا أنا لن ندعو غير الله، والدعاء العبادة، ومن هنا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة).

فلا يدعى إلا الله، ولا يطلب إلا الله، ولا يلجأ إلا إلى الله جل جلاله.

يقول تعالى عنهم: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:١٤].

أي: لا تنتظر ذلك منا يا دقيانوس، واصنع بنا ما تريد، فلن ندعو إلهاً من دون الله خالق السموات والأرض، فإلهنا وإلهك وربنا وربك ورب السموات والأرض جميعاً هو الله تعالى، فلن نعبد غيره، ولن نعترف بسواه.

قال تعالى: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:١٤].

أي: إن نحن فعلنا فدعونا غيره وعبدنا سواه؛ فقد قلنا الشطط، والشطط: الزور والباطل والبهتان، والشطط في الأصل: تجاوز الحق، وتجاوز الواقع، ويجمع كل ذلك الزور والبهتان والكذب.

وإذا بالملك يزيل عنهم شعار الأسرة المالكة من لباس الذهب ونحوه، ويلبسهم ألبسة الناس العاديين، ويضرب لهم أجلاً إلى الغد، فإذا لم يفعلوا ولم يعودوا إلى دينه فإنه سيرجمهم، وسيقتلهم، وسيصلبهم في جذوع النخل، وسيقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وخصهم بالإنظار لقرابتهم منه.

وكان هذا الإنظار لصالحهم، فتركوه وذهبوا ليلتهم يديرون الأمر والفكر، فما العمل؟ إن هذا الطاغية الجبار المشرك الوثني أبى إلا أن يشرك بالله، وأن يفرض شركه على غيره، فكان رأيهم الذي اتفقوا عليه أن يفروا بدينهم منه، وأن يذهبوا إلى مكان لعل الله ينقذهم، ولعل الله يبعدهم عن طغيانه وجبروته.