للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لاهية قلوبهم)]

قال تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:٣].

حال كونهم تلهو قلوبهم وتلعب بما في الدنيا من زخارف: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:٣٦] فهو يغلب الفاني ويترك الباقي، ينسى نفسه ولا يطلب ما ينفعها يوم القيامة يوم العرض على الله، ويشتغل بالخزعبلات والأباطيل، ويشتغل بما لا يليق بالرجل العاقل من المؤمن أن يشتغل به.

{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:٣].

(لاهية قلوبهم) أي: لاهية عقولهم، أي: الجوهر منهم الذي يدرك ويعي ويعقل، فهم يلعبون معرضون عن سماع الحق! وبالتالي عن العمل به.

قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:٣] أي: لم يكتفوا باللهو واللعب، بل أخذوا يتخافتون ويتسارون والقرآن ينزل: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:٣].

فشككوا بالنبوءة وكذبوا بها، وأخذوا يتسارون بالنجوى.

{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:٣] أي: الكفار والمشركون، والكفر أشد أنواع الظلم، وقالوا في هذه النجوى التي تخافتوا وتساروا بها: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:٣] أي: كيف يكون بشراً مثلكم ومع ذلك يكون نبياً ورسولاً، ويختص من بينكم بهذا؟! وهم كان في تصورهم الأعوج أن يكون النبي جنياً أو ملكاً.

ومع هذا كيف سيتلقنون الرسالة عن ملك لا يفهمونه ولا يفهمهم؟ وإذا أنزله الله ملكاً لجعله بشراً، ولجعله رجلاً، ولخاطبهم بالشيء الذي خاطبهم به نبي البشر فأنكروا وجحدوه.

{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:٣] هذه الآية فيها تقديم وتأخير، والتقدير: الذين ظلموا أسروا النجوى، فـ (الذين ظلموا) مبتدأ، و (أسروا النجوى) خبر.

أو يقال: واو الجماعة في (أسروا) فاعل، و (الذين ظلموا) بدل منها.

أو يقال: (الذين ظلموا) فاعل، وتكون الواو في (أسروا) حرفاً يدل على الجماعة لا إعراب له، ولكن هذه اللغة يقول عنها النحاة لغة: أكلوني البراغيث؛ لأن الكلام -حسب ما يقولون في كتاب سيبويه وغيره من كتب النحو- كان ينبغي أن يقال: أكلني البراغيث، فسمعت بدوية صغيرة تصيح وتقول: أكلوني البراغيث، فصارت عربية فصحى واعتبروا هذا الكلام كلاماً معرباً لا لحن فيه، ولكن هذه لغة القرآن، وهذا في القرآن كثير، وقد تحمس له واستدل عليه ابن العربي المعافري الأندلسي في كتابه: أحكام القرآن، فقال: لغة أكلوني البراغيث ليست لغية، وليست لغة ضعيفة، بل هي لغة فصحى بليغة جاء بها القرآن في العشرات من الآي، ولذلك لا حاجة إلى تقدير.

قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:٣] (أسروا) فعل ماض، والواو حرف يدل على الجماعة، (الذين ظلموا) هو الفاعل، ولكنهم مع ذلك حاولوا أن يجعلوا هناك متقدماً ومتأخراً، وقالوا: تقدير الكلام: (الذين ظلموا أسروا النجوى)، ولكن الله لم يقل هكذا، قال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:٣] وهذه لغة فصيحة وبليغة، فلا نحتاج فيها إلى تأويل، ولا تقديم ولا تأخير، وليس هناك حاجة إلى أن نقول: بدل، ولا إلى أن نقول: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين ظلموا.

القرآن بين واضح، والجملة لا تحتاج إلى بيان أكثر مما فيها، يقول الله فيها: الذين ظلموا أخذوا يتناجون بالكفر والشرك فيما بينهم، قالوا: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمَْ} [الأنبياء:٣]، أي: وكيف تتصورون أن يكون البشر نبياً ورسولاً؟! لم لا يكون ملكاً؟! هكذا شاءت قريش أن تقول هذا بعد أن جاءتهم المعجزات، وطلبوا التأييد بالمعجزات متعنتين، وهم لا يريدون هداية ولا علماً، وإنما جحدوا وأرادوا أن يستمروا في هذا الجحود والإصرار.

قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:٣]، اعتبروا السحر هو القرآن الذي أتى به عليه الصلاة والسلام.

والسحر في اللغة العربية: ما لا ظل له من الحقيقة، وهكذا أرادوا، وسيزيدون كفرهم بياناً وتوسعة بكل أنواعه كما فضحهم الله وكشفهم، فكان مما قالوه: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:٣] بنظر البصيرة، أي: وأنتم تعقلون وتعون، وأنتم تدركون، هكذا عقولهم الفاسدة! هكذا عيونهم التي أعماها الله وأعمى البصيرة قبل البصر! هكذا ينطقون وهكذا يتكلمون بعد المعجزات وبعد نزول الوحي! وبعد أن عاش بينهم نبينا صلى الله عليه وسلم أربعين سنة ما عرف فيها إلا بالأمين والصديق! لم تخرج منه كذبة قط حتى في الشئون الخاصة بين الناس، ما كان إلا العاقل والأمين والصديق، أفبعد بلوغ الأربعين سيكذب؟ لم يكذب على الناس أفيكذب على الله، حاشاه ومعاذ الله من ذلك.

(أفتأتون السحر)، أي: الباطل، هذا الكلام يقولونه عن الذين آمنوا بالله واحداً، وبالنبي رسولاً، وبالقرآن كتاباً.

وهذه الآية تدل على أن الذكر قصد به النبي صلى الله عليه وسلم.