للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه)]

هذا المتشكك المجادل في ربه {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:١٢].

فهذا الصنف من الناس منافقاً ومشركاً يعبد من دون الله {مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:١٢] أي: يعبد الأصنام والأوثان التي إن لم يعبدها لم تضره، وإذا عبدها لم تنفعه، وهو في هذه الحالة في ضلال بعيد وكبير لا ضلال بعده ولا ضلال قبله، وخسر دنياه وآخرته بشركه بالله وعبادته ما لا يضر ولا ينفع، وتلك صفة المجادل في ربه عن غير هدى ولا علم، وتلك صفة المنافق الذي يعبد الله على حرف.

ثم قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:١٣] يدعو: يعبد، والدعاء مخ العبادة؛ لأن الإنسان عندما يقول: أعطني يا رب! يكون معنى ذلك: أنه يعترف بأن الله وحده المالك لما يعطيه، والمانع لما أعطاه، والمحيي المميت.

وعندما يقول: يا رب! يكون قد خرج من حوله وقوته واستسلم لربه، وقال: أنت الغني وأنا الفقير، وأنت المعطي إن شئت وأنت المانع إن شئت، وحدك القادر على كل شيء وتفعل ما تريد.

ومن هنا كان الدعاء مخ العبادة كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك كثيراً ما تذكر كلمة الدعاء في القرآن بمعنى العبادة؛ لأنها هي العبادة وخلاصتها ومخها.

{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:١٣] هذه اللام قالوا: زحزحت عن الكلمة الثانية (ضره)، والتقدير: (يدعو من لضره أقرب من نفعه) وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته.

{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:١٣] يدعو ويعبد الذي ضرره أقرب إليه من نفعه، لبئس مولاه.

{لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:١٣] الولاية هي الاتصال بأي سبب بأحد من الناس، يقال: هذا ولي هذا وهذا ولي هذا، وقد تكون الولاية ولاية قرابة: قرابة دم، أو قرابة صهر، أو صلة معرفة وأخوة وعمل.

{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:١٣] أي: هذا العابد المشرك الذي اتخذ هذه الأصنام آلهة له بئست الأصنام والمعبودات الباطلة مولىً له، وبئست عشيرة.

والعشير: الذي يعاشره ويواصله ويتصل به بأي صلة كانت.

فهذا لملازمته المعبودات من دون الله، فهو عشريها وهي عشيره، ومن هنا سميت القبيلة والأسرة بالعشيرة، فهو يعاشرها وهي تعاشره، أي: هو يلازمها وهي تلازمه.

فالله هنا يذم العشرة من العابد والمعبود، ومن الولاية من العابد والمعبود معاً، إذ ضرر هذا أقرب من نفعه لمن عبده ودعاه من دون الله.

وقد يقول قائل: يقول الله في الآية السابقة: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:١٢]، وهنا يقول: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:١٣] فقد نسب لهذا المعبود الضر، وأن ضرره أقرب من نفعه لعابديه فكيف ذلك؟

الجواب

لا إشكال في ذلك؛ فالله عندما يقول لنا: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:١٢] فالآية تدل على غير العاقل، فهي متصلة بمن يعبد الأوثان والأحجار والجمادات الميتة والتماثيل، أي: يعبد ما لا يعقل، ولذلك أطلقت (ما) على ما لا يعقل كما هي لغة العرب.

فهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تعي أن تضر أو تنفع، ولا تنفع نفسها أو تضرها فضلاً عن غيرها.

النوع الثاني: من يعبد الأحياء التي يمكن أن تضره، ويمكن أن تنفعه، وهو قوله تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:١٣] يعبدون عيسى وعزير ويعبدون السادة والقادة والفراعنة، ويعبدون من جاءهم بدين غير دين الله، فأطاعوه وعملوا بأمره وبدينه، فهؤلاء جميعاً معبودون من دون الله.

ومن هنا قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] وادعى الربوبية والألوهية، وهو قد يضر، فقد تهدد السحرة الذين آمنوا بموسى وهارون ورب موسى وهارون، وقطع أيديهم من خلاف وأرجلهم وصلبهم في جذوع النخل.

فهؤلاء نوع من العباد يعبدون الأحياء من البشر من دون الله، وقد يعبدون الملائكة كما كانت بعض القبائل من العرب وغير العرب، وقد يعبدون الجن، وكل هؤلاء المعبودون عاقلون، وعبادتهم تضر ولا تنفع.

ففرعون ما أصيب من آمن به منه إلا الضر والبلاء والخزي منه ومن الله في الدنيا والآخرة، وما أصابهم من عبادتهم لعيسى إلا الضر، لأن عيسى نهاهم عن ذلك وتبرأ منه، وقال: لم أدعكم لذلك، إنما دعوت الناس لما أمرني به ربي، والملائكة قالوا مثل ذلك.

وأما الجن فتلاعبوا بهؤلاء العابدين لهم، فكانوا بذلك ضارين لهم غير نافعين، إذاً: هؤلاء المشركون عبدة الأوثان يعبدون هناك وثناً جامداً لا يتحرك، ووثناً متحركاً بشرياً، وكلا النوعين عبادتهما شرك وكفر وخروج عن أديان الله وكتبه، وعبادتها لا تزيد الإنسان إلا كفراً وبواراً وخسراناً في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:١٣] حتى ولو قلنا: إن المولى هنا كان بشراً: نبياً أو ملكاً أو جناً؛ فهذه الولاية لا ينال عابدها منها إلا الضر والشهادة بأنه مشرك كافر، والجزاء بما هو أهل له من الكفر والشرك، فهو يضره ذلك ولا ينفعه.

وقد لا يعاشر العابد معبوده، فعيسى رفع إلى السماء منذ ألفي سنة تقريباً، وفرعون انتهى منذ آلاف السنين، ولا نزال نجد من يعبد الفراعنة ويدين بدينهم، ويكفر إن كفروا، ويكون ملحداً وشيوعياً إن تشيعوا أو ارتدوا، فهو معهم على أي حال قاموا به شأن العابد مع المعبود أو المعبود مع العابد.

فهؤلاء كذلك لا ينفعونهم، بل يضرونهم بالشهادة فيهم، أو يكونون وإياهم وقوداً للنار محرقين مسعرين.