للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً)

قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣ - ٢٤].

إن سبب نزول هذه الآية هو أن عقبة والنضر، وكلاهما عاشا على الكفر وأصرا عليه وعلى حرب الله ورسوله وقد مكن الله نبيه من رقبتيهما، وقتلهما صبراً في غزوة بدر، عندما جاءا مثيرين لأهل مكة، من قبل أعداء الله ورسوله اليهود؛ فقد سألوا النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جعلوا له مجلساً عند الكعبة في فنائها، فقالوا له: يا محمد! إن كنت نبياً حقاً، فأخبرنا عن جماعة من الشباب غابوا في الدهر القديم، أين ذهبوا ومن هم؟ وأخبرنا عن رجل طواف بين المشرق والمغرب من هو، وما قصته؟ وأخبرنا عن الروح.

فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: غداً أجيبكم، فجاء الغد وجاء بعد الغد إلى اليوم الخامس عشر ولم يأتهم بنبأ، فكثرت الأقاويل، وكثر اتهام نبي الله عليه الصلاة والسلام بأن الله تركه، وأنه قد تخلى عنه شيطانه، وحاشا نبينا من كل ذلك عليه الصلاة والسلام.

وفي اليوم الخامس عشر جاء الوحي وجاء العتاب: لم تقول لهم غداً ولا تقول: إن شاء الله، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:١٢٨]، فالأمر بيد الله، فلو قلت: إن شاء الله وانتظرت أمر الله لكان أفضل، ولذلك دخل هذا الاستثناء والعتاب والملام في صلب السورة، فقد قص الله عليه القصة التي سئل عنها، وأنهاها بتأديبه وأن لا يعود إلى ذلك مرة ثانية.

فقال له ربه جل جلاله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣ - ٢٤].

أي: قل: إن شاء الله، واجعل الأمر بيد ربك، فله الأمر وله النهي، خاصة وأنت نبي ورسول، تتحدث عن الله وبوحي الله وبأمره، على أن الخطاب كذلك عام، كما يقول علماء الأصول، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والنبي لم يقل: إن شاء الله، لأنه نسي، فقال الله له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣ - ٢٤].

فكان هذا هو الأصل، وأصبحت الآية عامة لكل الناس، لأن الغد ليس لنا، إنما الغد لله، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠].

فإذا كان الأمر كذلك فيجب على المؤمن الموحد المخلص لله طاعةً وعبادةً، ألا يتحدث عن شيء إلا ويحيل علمه إلى الله، فضلاً عن عمله.

حكي عن سليمان أنه قال يوماً: لأطوفنَّ هذه الليلة على مائة من نسائي - وكان أنبياء بني إسرائيل يتزوجون المائة والمائتين والثلاثمائة امرأة - ليرزقني الله من كل واحدة منهن فارساً يجاهد في سبيل الله، فمضى العام، ومضت الأشهر التسعة التي تكون عادة هي مدة الحمل ولم يلد من زوجاته إلا واحدة، وولدته نصف إنسان، كما في الصحاح.

وقال النبي تعليقاً على ذلك: (لو قال سليمان: إن شاء الله، لاستجاب الله له، ولرزقه مائة فارس كلهم يجاهدوه في سبيل الله)، ولكن لم يقل: إن شاء الله.

قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:٢٤]، يعني: اذكر ربك إذا نسيت بعد التذكر للاستثناء، أي إذا قال أحدنا: سأفعل غداً، أو سأفعل بعد غد، ونسي أن يقول إن شاء الله، فذكر بعد ساعة أو ساعتين، فبمجرد أن يتذكر يقول: إن شاء الله.

وهذا هو علاج النسيان فيما إذا لم نقل إن شاء الله، وبذلك ترفع عنا المسئولية.

فالله علم نبيه وذلك، وهو أسوتنا الأعظم عليه الصلاة والسلام، فنحن نقول: إن شاء الله في كل ما نريد عمله، فإذا أنسانا الشيطان أن نذكر اسم ربنا، فعلينا إذا ذكرنا أن نقول: إن شاء الله.

وتجري على ذلك أحكام، فمن الناس من يطلق وبعد ساعة أو أكثر يقول: إن شاء الله، فتطلق عليه زوجته، لأنه أخر الاستثناء.

وابن عباس له في ذلك رأي وحكم عجيب، يقول: الاستثناء مقبول ولو بعد عام، ولكن علماءنا يقولون: ابن عباس أعلم وأكرم من أن يقول: الطلاق يبقى معلقاً سنة؛ لأنه خلال العام كيف يتصل بها وهي مطلقة، فقد فارقت زوجها وقد تتزوج غيره، وقد انتهت عدتها.

إذاً: فـ ابن عباس يقصد الأعمال الأخرى غير الطلاق، ولكن إذا طلق ثم استثنى قريباً، فعند ابن عباس يعتبر ذلك استثناء ولا يحدث طلاق، واختلف في هذا علماؤنا ومجتهدونا، فقالوا: إن كان الاستثناء متصلاً فنعم، وإن مضت مدة فلا يعتبر الاستثناء استثناءً من الفعل.

وهذا كقوله عليه الصلاة السلام: (من نسي صلاة أو نام عنها فوقتها حين يذكرها).

فالصلاة لا تؤخر عن وقتها، فإذا نسيها إنسان وتذكر بعد يوم أو بعد سنة، فبمجرد ذكره لها يصليها بلا تأخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وذلك أصل من أصول الشريعة، فالإنسان لا يؤاخذ على ما فعله نسياناً، ولا على ما استكره عليه.

قال تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:٢٤] أي: يا محمد! عندما تنسى ادعُ ربك وقل: عسى، وعسى من الله تحقيق وليست للترجي، أي: إذا ذكرت ربي بعد ذلك فإن الله تعالى سيلهمني الصواب، ويرزقني الرشد والتوفيق والهداية للحق والصواب، فإذا نسيت أن تثني بإن شاء الله، أو إذا ذكرت بعد ذلك فقلت: إن شاء الله، فقل مع هذا: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:٢٤].

قل: عسى الله أن يرشدني لأن أقرب الصواب، ولأن أكون قريباً للصواب والرشاد، وأن أمتنع وأبتعد عن الخطأ، وعن الضلال وعما لا يليق.

هذا ما يجب على الناس أن يفعلوه، أن يقولوا بعد أن يذكروا: إن شاء الله، فيدعون الله بهذا الدعاء، كما قال علماؤنا ومفسرونا.