للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الطواف]

الطواف بالحج ثلاثة أنواع: الطواف الأول: عند دخول الحاج إلى مكة من خارجها، فعليه أن يطوف بالبيت سبع مرات: ثلاث منها تكون هرولة أو قريباً من الهرولة -تكون خبباً-، وأربع تكون مشياً عادياً، وهذا هو طواف القدوم.

الطواف الثاني: طواف الإفاضة، وهو ركن بإجماع، وهو المقصود في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩].

الطواف الثالث: قال بوجوبه المالكية، ومن لم يفعل فعليه دم، وعليه أن يعود إليه إذا تركه ولو كان قد وصل إلى بلده، ولكن الجمهور على سنيته، ولا خبب فيه ولا هرولة، كطواف الزيارة.

وهذا الطواف الثالث يسمى طواف الوداع.

والسر في الهرولة أو الخبب في طواف القدوم هي ذكرى لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد معاهدة الحديبية، وذلك في السنة السابعة.

فقد دخل صلى الله عليه وسلم والسيوف في أغمادها وقرابها، واختفى أهل مكة لكيلا يروا هذا المنظر من محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرادوا قتله، وأرادوا سجنه، وأرادوا منعه من الخروج، وقصدوا له الغوائل من كل جانب، فأنقذه الله منهم، وذهب إلى المدينة، فأصبح ذا أنصار وأعوان وجند، فامتنع عنهم، وما عادوا يطمعون في القضاء عليه إلا حرباً، اختفوا لكي لا يروه؛ عداوة وحقداً، وإذا بالأطفال وإذا بالغلمان والعبيد والأرقاء ذهبوا إلى سادتهم يقولون: انظروا إلى محمد ومن معه جاءوا يجرون أرجلهم فقراً وحاجة، وألبسة ممزقة، ووجوه ضعيفة هزيلة، ووجوه لشيوخ لا يكادون يستطيعون رفع الأقدام من الأرض، فخرجوا ليروا هذا المنظر، وليتشفوا فانتبه النبي عليه الصلاة والسلام لذلك أو سمعه أو قيل له، فأمر أصحابه وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (رحم الله مؤمناً أظهر من نفسه قوة)، وهو القائل كذلك: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وأمر بأن يطوفوا مظهرين القوة، فأخذوا يهرولون، والله تعالى ألبسهم لباس القوة ولباس الشباب، ولباس ما يسمى الآن الرياضة والفتوة، فرأى هؤلاء هذا المنظر فكبتوا به وتألموا له، وحزنوا من أجله، وقالوا: أهؤلاء الذين قلتم لنا إنهم ضعاف هزال ويكادون يجرون أرجلهم في الأرض جراً؟! والله! إنهم كالنمر وهم يقفزون، والله! إنهم كغزلان الغاب وهم يطوفون، وكان هذا هو المقصود عند النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليغيظ عدوه، وإغاظة العدو مهما تكن قلتها فيها أجر وثواب للمؤمن المسلم، فبقي بعد ذلك لكل قادم، ولكل زائر لمكة طائفاً كان أو معتمراً أو حاجاً: أن يكون طوافه للقدوم بهذا النوع ذكرى لليوم الأول الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة.

وأما الطواف الثالث وهو طواف الوداع فلا يحتاج لذلك، وأهل مكة ليس عليهم طواف قدوم؛ لأنهم مقيمون في مكة فليس هناك قدوم، ومن حج من مكة كذلك ليس عليه صلاة قدوم؛ لأنه قد قدم وأقام فليس هناك حاجة إلى طواف القدوم.

قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ -يقومون بالوفاء بها كاملة- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩].

قال العلماء في سبب تسمية الكعبة وبيت الله الحرام بالعتيق كلمات قد تكون جميعها صحيحة، وتصلح جميعها أن تكون تفسيراً لكلمة العتيق.

فالعتيق هو: الكريم، التليد، المقبول والمحبوب، القديم الذي مضى عليه زمن الله أعلم كم مقداره.

وقالوا: سمي العتيق؛ لأنه أول بيت بني، فهو أعتق بيت وأقدم بيت لله في الأرض، وهذا أكده القرآن، وزادته السنة بياناً، فقد قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:٩٦].

وسئل عليه الصلاة والسلام: (ما أول مسجد بني في الأرض؟ قال: بيت الله الحرام، ثم سئل: والمسجد الأقصى، قال: بني بعده بأربعين عاماً)، فهو بهذا الاعتبار عتيق والكلام صحيح قرآناً وسنة.

وقالوا: العتيق الذي كرمه الله من أن يحتله ويستذله جبار من الجبابرة، أو عدو من الأعداء يهينه أو يذله، فلم يحدث لهذه البنية الكريمة، وهذه الديار المقدسة ما احتلها عدم لا في أيام الجاهلية ولا في أيام الإسلام.

ومن هنا كان العرب وضعهم في الجاهلية والإسلام غريباً، فقد كان يوجد في أيام الجاهلية دولتان عظيمتان متسلطتان على الأرض: فارس والروم، وتقريباً أنهما قد احتلتا العالم، ولكنهما لم يحتلا جزيرة العرب، كان لهم شبه سيادة في اليمن، أما الحجاز فلا.

ومن هنا لم يصل ولم يقدر الله جباراً من الجبابرة ولا طاغية من الطغاة على أن يحتل مكة أو يذلها وأن يذل أهلها، قد كان بعض ذلك من بعضهم لبعض، وهذا كلام آخر، ومع ذلك فهؤلاء لم يضربوا الكعبة، ولكن حدث ذلك أيام بني أمية؛ أيام عبد الملك بن مروان بتنفيذ الحجاج الظالم، وقد كان يحكم مكة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فحاربه وقاومه ليذله ويخضعه لـ عبد الملك، فامتنع كل الامتناع وأبى كل الإباء، إلى أن تفرق عنه أصحابه، وبقي فريداً، وقال لأولاده أيضاً: اذهبوا عني، دعوني للقدر ولقضاء الله، وما أرى صبيان بني أمية إلا ممثلين بجسدي، ولعلهم يصلبونني على الكعبة، فقالت له أمه: أأنت على حق أم على باطل؟ قال: بل أنا على حق، قالت: والله! إن كنت على غير حق في حربك مع هؤلاء -وأنت تعلم أنك لست على حق- فإني أخشى أن يتلاعب بك صبيان بني أمية، وأما إن كنت على حق فلا تهتم بهم، فالشاة لا تعذب بعد السلخ -أي: بعد الموت- فالشاة عندما تموت ويذهب الجزار ليسلخ جلدها عنها فإنها لا تعذب وقد ماتت، فعش عزيزاً ومت عزيزاً، فإن أنت صلبت أو مثل بك فإنك لن تعذب جسداً، وتكون قد قدمت ما استطعت، والغلبة والنصر بيد الله، وليس ذلك بيد أحد، قال تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:١٦٥].

فحدث ما توقع، فـ الحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق، ولكن هذا كان ظلماً واعتداء منه، ولم يقصد به هوان الكعبة أو إذلالها وإلا لكان مرتداً، ولكان عبد الملك مرتداً، ولكان كل من صنع ذلك مرتداً، وهو قد فعل ما فعل وقال: إن ابن الزبير هو المسئول فهو الذي أحوجني لفعل هذا، وبمجرد ما انتهت المعركة عاد للبيت فجدد بناءه وجدد تنظيمه، وطاف به معتذراً، وأما إن كان محقاً أم مبطلاً فهذا كلام آخر.

قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥] فكل الأحكام في الشريعة لا تكون إلا بعد فعل الذنب إلا في مكة، فمجرد الإرادة بالظلم والاعتداء فإن الإنسان يأثم وقد يعاقب، وللشارع أن يؤدبه بما يراه مصلحة لتطهير مكة منه، ولإبعاد الظلمة منها بأي عمل من الأعمال.

وقد جاء أبرهة وحاول أن يذل الكعبة وأن يهدمها حجراً حجراً، ولكن هيهات، فقد سلط الله عليه طيراً أبابيل كما قصصنا، فجاءت هذه الطيور السوداء يحمل كل واحد منها ثلاث حجرات بحجم حبة العدسة؛ واحدة في المنقار واثنتين في الرجلين، فرميت هذه الحجارة على رأس الفيال، فدخلت من الرأس إلى الأمعاء، ومنه إلى ظهر الفيل، ومنه إلى بطن الفيل فأصبح الفيل وراكبه عصفاً مأكولاً؛ أي: كالحشيش الذي تأكله الدواب، وأصبحوا كالبعر عندما يخرج من الدواب وأصبحوا كرجيعها، أي: كالحشيش الذي يؤكل فيخرج بعراً، وهكذا فإن الله طهرها من الجبابرة في الجاهلية وفي الإسلام.

{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩] قالوا: لا يمسها جبار، وفسروا العتيق بأنه عندما فاضت المياه أيام نوح على قومه، فقد حفظ الله البيت، فلم يغرق في هذا الطوفان، وقيل: إنه رفع، وقيل بقي في مكانه، ولكن المياه بقيت بعيدة عنه.

كما جعل الله طريقاً في البحر يبساً لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون ومن معه من جنده، وأصبح البحر كالجبل عن اليمين من المياه وعلى اليسار من المياه، فدخل فرعون فالتقى الجبلان وغرق فرعون ومن معه، كان هذا الماء مفروزاً عن الكعبة فلم تغرق كما غرق الكون.