للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)]

قال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:٤٥].

لم يذكر في هذه الآية أنبياء الله جميعاً، ولم يذكر أتباعهم وأممهم الذين كذبوهم جميعاً، ولكنه عمم فقال: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: كم من أهل قرية أهلكناهم ودمرناهم وجعلناهم في الأمس الدابر، وجعلناهم أحاديث تقص في السمر، ويعتبر به المؤمن عند إيمانه ومدارسة الأديان، ومدارسة المؤمنين السابقين واللاحقين.

فقوله تعالى: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: في حال ظلمها، أي: لم تكف عن الظلم ولم تتب عن الظلم بكل أنواعه، فأظلم الظلم وأشده كبيرة الشرك بالله، فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا صاحب الحق حقه جل جلاله، إذ لم يوحدوا الله ويشكروه على ما رزقهم من حواس ونعم وصحة وأرزاق، وأبوا إلا الشرك والجحود إلى أن لقوا الله ظالمين مشركين.

قال تعالى: ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)) العروش هنا: السقوف، فهذه القرية فارغة من سقوفها إلى الأرض، فقد خربت ودمرت وزلزلت، ولم يبق فيها ساكن ولا حي، فقد باد أهلها وأهلكوا وذهب نعيمهم وكفرهم، وذهبت رفاهيتهم من نساء وبنين وطيور وزينة، فجاءوا من التراب وعادوا للتراب، ودمروا تدميراً هم ومساكنهم، ولم يبق هناك قصر مرتفع أو مزخرف مطلي بأنواع الدهون، محفور بأنواع الزينة، مرتفع إلى أعلى الطبقات.

ذهبت القصور وخربت، ولم تبق لها سقوف ولا حيطان ولا جدران، خلت من سكانها ونعيمها، وخلت من شبابها وشيوخها، وخلت من نسائها وفتياتها، وخلت من النعيم الذي كانوا يعيشون فيه مترفين مع شركهم وكفرهم، لم يقولوا يوماً عن هذه النعم المتوالية: نشكر الله ونحمد الله.

قوله: ((وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)) أي: كم من بئر جفت مياهها وخلت عن السواقي وعمن يجتلب منها بالدلاء، فقد عطلت وغار ماؤها كما عطلت القرية بقصورها المشيدة وبمصانعها القائمة على حضارتهم، وكأنه لم يكن فيها يوماً أنيس، ذهبوا بشركهم وكفرهم، ولعذاب الله يوم القيامة أشد.

ومعنى ذلك: أيها الكافرون بمحمد خاتم الأنبياء خذوا العبرة والعظة ممن سبقكم من المشركين، ما الذي صنعناه بهم؟ وكيف دمرناهم؟ فهذه قراهم خالية، وآبارهم معطلة، وقصورهم خاوية على عروشها من سقوفها إلى جدرانها، كأن لم يكن فيها يوماً أنيس، أو حي يتكلم ويأخذ ويعطي.

وهنا الله جل جلاله يخاطب الكافرين والمؤمنين، وإن كان الخطاب يشير إلى الكافرين، فإنه يخاطب الكافرين لعلهم يأخذون من ذلك العبرة والعظة، فيخشون الله يوماً ويعودون إلى الله وإلى رسله، ويخاطب المؤمنين ليزدادوا إيماناً ورسوخاً في يقينهم وإيمانهم بالله ورسوله.