للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب)]

وقالوا: سبب نزول هذه الآية أن الكفار أرادوا أن يهجموا على مسلمين في شهر من الأشهر الحرم، وهو شهر محرم، فناشدوهم وقالوا: لا ترفعوا سيفاً ولا تقتلوا ولا تقاتلوا في شهر حرام، فالله حرم ذلك، وهم جاءوا ليحاربوا المسلمون في شهر حرام، ظناً منهم أن المسلمين في الشهر الحرام لن يقاتلوا، ولن يعاقبوا أو ينتقموا، ولكن الله أذن في القتال وقال: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:٦٠] فكان القتال سجالاً، والبغي هنا: هو الظلم الزائد، فالمشركون أبوا إلا القتال في الشهر الحرام.

وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً -وكان بعضهم قد قتل، وكان هناك قتال في الجهة التي دخلها خالد بن الوليد -: (إن الله تعالى حرم مكة إلى يوم القيامة، ولم تبح لي إلا ساعة من نهار، ولم تحل بعد اليوم لأحد) هذا إذا كانت الحرب ابتداء كما صنع صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الحرب في شهر رمضان شهر العبادة والطاعة، واسترسلت إلى إلى شوال وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، الأشهر الحرم الأربعة، ومكة بلد حرام لا يباح القتال فيها في الأشهر الحرم وفي غيرها، وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لم يؤذن في القتال إلا ساعة من نهار) فالمراد: الابتداء، ولكن ذلك الابتداء كان جزاء لما سبق أن فعله كفار قريش من حرب رسول الله والمسلمين، وإخراج رسول الله، ثم ابتدأ المسلمين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله بالقتال، وهذا الذي حرمه الله في مكة وفي المدينة في الأشهر الحرم إن كان ابتداء، لكن لم يكن فعل النبي وصحبه ابتداء، بل المشركون هم البادئون بالاعتداء، والدفاع والكفاح والجهاد واجب على كل من يستطيع حمل السلاح في داخل البلد المحرم وخارجه.

إذاً: فالكفار كانوا قد هاجموا في شهر حرام؛ فقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:٦٠] فالكفار قاتلوا فقتلوا رداً على قتالهم.

قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج:٦٠] أي: ظلم المسلمين زيادة على الحرب بأن قوتلوا في شهر حرام، والقتال في الشهر الحرام اعتبر عند المسلمين في دينهم بغياً وظلماً.

فعندما ظلموا وطغوا على المسلمين أذن الله للمجاهدين من المؤمنين أن يعاقبوهم مرتين للقتال، ثم لما زادوه بغياً بأن كان ذلك في شهر الله الحرام، أذن الله لهم أن يقاتلوا في شهر الله الحرام.

وقوله تعالى: {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] أقسم الله بأن الذي بغي عليه -ولو في شهر حرام وفي أرض حرام- ثم انتقم جزاء وفاقاً من ذلك الظالم الباغي أن الله سينصره، أي: ينصر المظلوم وقد فعل، فقد نصر الله هذه الفئة المظلومة المبغي عليها نصراً عزيزاً مؤزراً، وهزم أولئك الباغين الظالمين المنتهكين لشهر الله الحرام، فقوتلوا وأذلوا.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠] أي: بعد ذلك قد عفا الله عن هؤلاء؛ لأنهم لم يقاتلوا بغياً وعدواناً في شهر الله الحرام، وإنما قاتلوا جزاءً وفاقاً وانتقاماً، أي: عقوبة لمن ظلمهم مقابل عقوبة.

فالعقوبة الأولى هي: الظلم الأول الذي من المهاجم الكافر، فحق عليهم القتال، وأما لجزاء فهو في قوله: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:٦٠]، وإنما سمي عقاباً أو عقوبة للمشاكلة في اللفظ، وهذا من أنواع البلاغة، وإلا فالمقابلة ليست عقوبة وذنباً، أي: من حيث الاسم، وإنما كانت تأديباً، وهي عقوبة نتيجة للعقاب السابق، كما قال الله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] أي: المجازي للمسيء ليس مسيئاً، ولكن سميت إساءة في المقابلة والمشاكلة، وهذا نوع من أنواع البلاغة في لغة العرب التي بها نزل القرآن الكريم.

وقديماً قالوا في قواعد الأصول: الضرورات تبيح المحظورات، فالشهر الحرام ليس فيه حرب، وبلد الله الحرام كذلك، ولكن إن ابتدأ الظالم الحرب في بيت الله الحرام، وكذا إن هاجم في الأشهر الحرم، فعند ذلك يباح للضرورة ولجزاء الظالم وعقوبة المسيء أن يقاتل في المدينة الحرام وفي الأشهر الحرم.

وأما ابتداء القتال فيه فهو عظيمة من العظائم وكبيرة من الكبائر، بل إن بعض الفقهاء يرى أن إقامة الحدود يجب أن تكون خارج الحرم لا في داخله.