للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)]

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].

هذه القصة -وهي في عشر آيات ابتداءً من هذه الآية- هي سبب نزول السورة كلها.

قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:١١].

الإفك: أشد أنواع الكذب، وهو قلب الحقائق، والافتراء على الله، والكذب على الناس بما لا يصدر عنهم، وبما لا يمكن أن يكون منهم.

وكان هذا الافتراء على السيدة المطهرة أم المؤمنين عائشة، وهي أحب نساء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد السيدة خديجة رضي الله عنها، فافتري على أم المؤمنين عائشة واتهمت بالفاحشة وحاشاها من ذلك، ولولا أن الله ذكر هذا ليبرأها لما وجدنا لساناً ينطق به، ولما قدمنا الكلام به، ولكن شيئاً قد قيل، وكانت البداية سيئة، وكانت النهاية مكرمة ورفعة لأم المؤمنين، ورفعة لـ أبي بكر وآله وزوجته أم رومان، ورفعة للمتهم صفوان بن المعطل.

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:١١].

أي: جاءوا بالكذب والافتراء على السيدة عائشة أم المؤمنين.

{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:١١] جماعة منكم، فيهم نساء وفيهم رجال.

{لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:١١].

أي: لا تظنوه كان شراً لكم، بل كان طريقاً للرفعة، وكان طريقاً للخير، وقد يأتي الخير عن طريق الشر، وقديماً قال العرب في جاهليتهم: رب ضارة نافعة، وقال ربنا جل جلاله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦].

فكانت هذه التهمة القاسية التي تألم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قبل البراءة، وتألمت لها عائشة شهراً كاملاً وهي تبكي، وتألم لها أبو بكر، وتألمت لها أم عائشة أم رومان، وكان الحزن مخيماً على البيت النبوي، وعلى بيت أبي بكر، وعلى آل محمد صلى الله عليه وعلى آله، وهم يعيشون في أحزاناً متوالية، ولم يستطيعوا أن يصنعوا شيئاً.

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:١١].

لكل كاذب من هؤلاء كان امرأة أو رجلاً إثمه وجرمه وعذابه ونقمة الله منه بمقدار ما اكتسبه من الافتراء والكذب على الله، والكذب على البيت الطاهر، والكذب على عرض سيد البشر وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١].

وكبير هؤلاء الذي أفشى ووشى ذلك، وكذب في ذلك له العذاب العظيم، وما العذاب له إلا الخلود في النار والغضب واللعنة الدائمة في الدنيا والآخرة.

والقصة كما وردت في السنن والمسانيد والصحاح عن عائشة رضي الله عنها نفسها، وعن أمها أم رومان، وعن ابن عباس وعن الجماهير من الصحابة، يدخل حديث بعضهم في بعض، مجموعه وملخصه كما في البخاري ومسلم ومسند أحمد تقول عائشة وهي صاحبة الشأن: كان من عادة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا أراد غزاة أو خروجاً من المدينة أن يخرج معه أحد أزواجه، ولا يفضل واحدة على أخرى، ولكنه يصنع القرعة، فأيها خرج سهمها خرجت معه، وفي غزوة من الغزوات أقرع بين النساء وإذا بالقرعة تخرج لـ عائشة، فخرجت عائشة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فغزا وجاهد وحارب، وأتم غزوته وحربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تقول عائشة: وبينما نحن عائدون وقد قربنا من المدينة المنورة إذا بالجيش النبوي ينزل ويستريح ليلاً، قالت: فخرجت لقضاء حاجة فغبت قليلاً ثم عدت، وإذا بي أنتبه أن عقداً من عقيق ظفار قد ضل مني -وظفار مدينة مشهورة في دولة عمان- ففقدته من عنقها فلم تجده، وكان هذا العقد بمثابة عقد اللؤلؤ اليوم، فعادت لنفس الطريق الذي كانت فيه وهي تبحث إلى أن وجدته، وفي هذه المدة التي بحثت عن العقد كانت القافلة قد ذهبت، وكان هودجها قد كلف به من يحمله، ومن يقود بها جملها، فجاءوا وحملوا الهودج فوضعوه على جملها وهم يظنون أنها راكبة، وكانت لا تزال صغيرة خفيفة اللحم، كما تقول: لم نكن نأكل إلا العلقة من الطعام، فنحن خفاف الأجسام خفاف الأبدان.

قالت: فحملوا الهودج وهم يظنونني فيه، وإذا بي أعود فلم أجد أحداً، وقد وجدت العقد ولم أجد الراحلة ولا الجمل ولا الهودج، فجلست في مكاني وأنا أعتقد أنهم سيفتقدونني ويبحثون عني، وإذا بالنوم يأخذني، وإذا بي أسمع عند رأسي رجلاً يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! وكيف كان ذلك؟ كان من العادة في الجيوش النبوية المحمدية وجيوش المسلمين في العصر الأول، وفي كل وقت أنهم يدعون مؤخرة تتبع القافلة فيما إذا نسيت شيئاً، أو تركت مريضاً، أو غير ذلك فيأتون به، فكان خلف الجيش في هذه الرحلة صفوان بن المعطل السلمي، فجاء إلى مكان القافلة بعد ساعات، وإذا به يجد أم المؤمنين هي التي نسيت وتركت، تقول عائشة: وكان يعرفني قبل الحجاب، وإذا بي أستيقظ وأسمع الترجيع، والله لم أسمع منه كلمة سواها ولم يكلمني سواها، فأناخ جمله، فصعدت الجمل وذهبت، وأدركنا القافلة مع حر الظهيرة.

وإذا بالجيش المحمدي كان فيه منافقون، وكان من عادة هؤلاء المنافقين ألا يجلسوا مع الجيش النبوي مباشرة، إنما ينتبذون في الأركان والأطراف ليتم لهم التكلم والاستهزاء والمسارة في الكيد للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هؤلاء المنافقون معهم كبيرهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فإذا به يقول: انظروا إلى زوجة نبيكم تبيت الليل كله مع رجل من أصحابه.

تقول عائشة: ولما رجعت إلى البيت إذا بي أمرض، وطال مرضي شهراً، وما كنت أنكر شيئاً إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأتيني صباحاً على خلاف عادته عندما أشتكي.

أي: أن من عادته إذا اشتكت ومرضت أن يلاطفها ويجالسها ويتكلم معها، ولكن في مدة هذا الشهر كله يأتي إلى الباب ويقول: كيف تيكم؟ أي: كيف تلك المرأة؟ قالت: فقدت منه اللطف الذي كنت أعرفه قبل، ولكن مع ذلك لم يخطر ببالي شيء.

وبعد تمام الشهر أرادت حاجة فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة، وبينا هي تذهب لحاجتها إذا بها تعثر فتقول: تعس مسطح! فتقول لها عائشة: بئس ما قلت، أتدعين على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر غزوة بدر! وإذا بها تقول لها: يا عائشة! أنت في غفلة مما يقول الناس، قالت: وماذا يقول الناس؟ قالت: يقولون كذا وكذا! قالت: وإذا بكل ما كان بي قد توقف، فعادت إلى البيت، ودخل عليها رسول الله على العادة فوقف عند الباب في صباح اليوم التالي فقال: كيف تيكم؟ قالت له: يا رسول الله، ائذن لي بالذهاب إلى أبوي، فأذن لها، فدخلت البيت وأبو بكر يسمع ما حدث، وأم رومان أمها تسمع ما حدث، فأخذت أم رومان تقول لها: ما الذي جاء بك؟ خطر ببالها أن تكون قد طلقت نتيجة ذلك، وسيكون الأمر عظيماً، وأبو بكر كان يقرأ في العلية في تلك الساعة التي دخلت فيها عائشة، فسمع صوت عائشة فنزل، فأخذت عائشة تسأل أمها: ماذا هناك يا أماه؟ قالت: تحدث الناس وتحدث، فقالت: أسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أسمع ذلك أبي؟ قالت: نعم.

وإذا بها تبكي، ويشتد بكاؤها، فنزل أبو بكر على ذلك، فلم يستطع الأب ولا الأم أن يقولا شيئاً.