للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)]

كان الناس في الجاهلية يشترون الإماء ويتملكونهن ويجبرونهن على الزنا، فيجلبن لهم المال، وإذا حملن وولدن اعتبروا أولادهن كذلك رقيقاً، فيولَّدونهن كما يولد الإنسان حماره وبغلته، فجاء الإسلام فحرّم ذلك واستنكره، وبقي المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي يفعل ذلك، وأسلم إماؤه، فعندما أراد إكراههن على ما اعتاد في الجاهلية قبل الإسلام وقبل هجرة محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة امتنعن، فضربهن مولاهن، فذهبن يشتكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)) أي: لا تجبروهن على الزنا إن أردن العفة، والكثير ممن لم ينتبه لتفسير الآية قال: لا تكرهوهن إن أردن تحصناً، فإرادة التحصن خرج فخرج الغالب، وليس الكلام كذلك، فإنهن إن لم يردن التحصن فمعناه: أنهن زانيات من غير أن يكون مولاهن آمراً أو ناهياً، فإذا كانت الفتاة لا تريد التحصّن ولا تريد العفة ولا الكرامة والشرف، فما الحاجة إلى أن يكرهها سيدها! فهي من نفسها تذهب وترغب في الفاحشة.

نقول: هذا له حكم آخر، وعلى سيدها أن يقيم عليها الحد، وحدود الإماء والعبيد نصف حد الأحرار، فحد الزنا بالنسبة للعزب الحر مائة جلدة، وهو للإماء خمسون، وحد القذف للحر ثمانون جلدة، هو للإماء وللعبيد الأرقاء أربعون جلدة، فعليهم نصف ما على الأحرار من العذاب كما قال جل جلاله، ولا يُتصور القول بالإكراه إلا بالنسبة لمن أرادت العفة والتحصّن، وأما من لم ترده منهن فلا حاجة للإكراه، ولذلك فالكلام خرج كواقعه ولم يخرج على أنه فعل الغالب والكثير.

ونحن اليوم في عصر سوء؛ وعصر اليهود والتبرّج والفاحشة وأنواع البلاء، هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والنور، ما هو إلا عصر الكفر والفساد وعصر الحيوانية والبعد عن الله ورسوله وعن النبل والكرامة، فمن البلاء أن أصبحت هناك جمعيات يشارك فيه مسلمون فتجلب هذه الجمعيات من أوروبا وغيرها من بلاد الكفر ما يسمونه بالرقيق الأبيض، فيأتون بهن للزنا والفاحشة، ويأتون بهن لدور اللهو والرقص والسينما وما إلى ذلك، ويعطونهن قدراً ضئيلاً من المال، ويجبرونهن بأنواع الإيذاء ليكسبن من وراء زناهن وفسقهن ورقصهن وفاحشتهن، وأصبح هذا على الشكل القانوني المقبول في أكثر دول الأرض؛ وهذا من البلاء ومن العودة للجاهلية الأولى والعودة للكفر، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:٣٣] فبالنسبة للمرأة المكرهة (فإن الله غفور رحيم) يغفر لها؛ لأنها مجبرة، ويرحمها لأنها لا إرادة لها في ذلك.

قوله تعالى: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ)) أي: من يحاول منكم أن يكره هؤلاء الضعيفات على أعراضهن وشرفهن وإسلامهن، فالله من بعد أن تكرهوهن غفور لهن رحيم بهن.

وأما أولئك فقد دخلوا في جملة من المعاصي والآثام، إذ نشروا الفاحشة والفساد وأكلوا به مالاً حراماً، فكانوا بذلك مستحقين لأنواع من الحساب والعقاب في الدنيا فضلاً عن الآخرة، ويعدون ممن دخلوا في الدياثة؛ لأن من يرى الفاحشة في أهله ويرضى بها فهو ديوث، فالجارية أهله ومكان عفّته إن أراد، فهو يذهب لعرضه فيبيعه للناس، ومن كان كذلك فإنه يستوجب عليه العقاب والنفي من الأرض، وقد يوصل ذلك إلى القتل إن كان فساداً في الأرض، وقد قال تعالى عن هؤلاء: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣].

ونشر الفساد في الأرض يكون بنشر الفاحشة والمنكرات بأنواعها، ونشر الحرام وترك الحلال، وسفك الدم الحرام، والتعرض للحرم وللنساء، والتعرض للولدان، وهم بذلك يحاربون الله فيما أمر به، ويحاربون رسوله فيما أمر به، وجزاء هؤلاء وعقوبتهم أن يخيّر الحاكم في واحدة من ثلاث: إما أن ينفيهم من الأرض، أي: يسجنون، وهو النفي التام إلى الأبد، وإما أن يبعدوا إلى صحارٍ لا يراهم الناس ولا يرونهم، أو تقطّع الأيدي والأرجل من خلاف: اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، أو يصلّبون أحياءً حتى الموت.

وقول الله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:٣٣] قال العلماء: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى في لغة العرب، فلم يقل: يُقْتلون ولم يقل: يُصْلبون، بل قال: يُقتّلوا أو يصلّبوا، فهذا التشديد والتأكيد زيادة في المبنى للتأكيد، فتدل على أن القتل يكون في أشد أنواعه، وعلى أن الصلب يكون في أشد أنواعه، وما ذاك إلا أن يصلبوا أحياءً حتى الموت.

قال تعالى: ((وَمَنْ يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم في كتاب الله، وكل كتاب الله بليغ معجز، وهذه الآية من أبلغها وأفصحها وأجمعها للمعاني، إذ جمعت الدعوة إلى الكرامة والعفة، والصبر إلى أن يُغني الله هذا الفقير المستعفف، وفيها الأمر بتحرير الرقيق، وفيها الأمر بإعطاء الناس من مال الله، وأن يساعدوا على تحرير العبيد، وفيها منع وتحريم المتاجرة بالأعراض وبالشرف وبالمروءة، كل ذلك في آية كثيرة المعاني.