للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع)]

قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧].

أثنى الله على رجال يلزمون المساجد، ويصلون فيها الصلوات الخمس وإن شغلهم شاغل، وإذا تركوا صلاة الجماعة في المسجد صلوها جماعة في أي مكان؛ لعذر أو لمرض أو لسبب ما، ولكنهم يحرصون على ألا يتركوا المساجد ولا صلاة الجماعة فيها، فالله أشاد بهؤلاء وأثنى عليهم وقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٧]، وهؤلاء على شغلهم بالتجارة وشغلهم بالبيع والشراء لا يقدمون دنياهم على دينهم، ولا تشغلهم مادتهم عن روحانيتهم، ولا يظهرون الشدة على جمع الدنيا، بل يريدون أن يتاجروا كذلك ويتزودوا للآخرة بصلاة في جماعة، وبعبادة الله ذكراً وصلاةً وزكاةً وحضوراً في بيوت الله.

وذات مرة رأى ابن عمر المؤذن يؤذن وإذا بأصحاب الدكاكين يغلقون دكاكينهم ويذهبون للمسجد، فقال لهم: فيكم نزل قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٧].

وكثيراً ما يستفتينا أشخاص ويقولون: وقت الأذان والصلاة نكون منشغلين بالتجارة أو بعمل في الدائرة أو نكون في اجتماع، فنقول لهم: كل ذلك اجعلوه في هذه الساعة هباءً، فقد دعاكم الله على لسان المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح، أي: أقبل أيها المسلم للصلاة وللفلاح والعبادة والذكر والاجتماع في بيت الله، فكيف إذا كان النداء من بيت الله الحرام أو من المسجد النبوي أو من المسجد الأقصى فك الله أسره، وأعاده للمسلمين وأنوف اليهود في التراب راغمة.

قال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ} [النور:٣٧] أي: لا يلتهون ولا يلعبون ولا يضيعون أوقاتهم في التجارة، {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٧] (ذكر الله) كلمة عامة فتشمل الصلاة، والتلاوة، والذكر بأنواعه: ذكر اللسان وذكر القلب.

وقوله: (وإقام الصلاة) أكثر من إتيان الصلاة، والإقامة: هي المحافظة عليها في أول أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها وأدائها، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول الوقت رضوان الله، ووسطه رحمة الله، وآخره عفو الله)، وشتان بين الرضا والعفو، فالعفو يكون عمن صدر منه خطأ أو ما لا يليق، فيعفو الله عنه؛ إذ كان ينبغي أن تكون في أول وقتها، وأما الصلاة في أول وقتها فهو رضا الله، فقبل الصلاة وجازى فاعلها عليها، والوسط رحمة الله، ولكن الرضا أفضل وأكمل.

وكذلك لا تشغلهم تجارة ولا بيع، وفرّق هنا بين البيع والتجارة؛ لأن الجالس في الدكان أو المخزن يسمى بائع، وأما الذي يشتري ويبيع فهو تاجر.

وكذلك عندما يحل وقت الزكاة ويتم النصاب في الزرع وفي المواشي وفي الدراهم وفي الذهب والفضة بمجرد تمام سنة، فلا ينشغل عن أدائها ويقول: غداً أزكي، أو بعد غد أزكي؛ لأنه قد حل الفرض والركن وحلت ملكية الفقراء والمساكين، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:٦٠]، وعلماؤنا يقولون: إن هذه اللام في الآية للملكية، ولا يجوز للإنسان أن يمنع المالك من ملكه، ولا أن يتصرف فيه بعد تملكه له، فإن فعل فإنه يكون ظالماً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لي الظالم يوجب عقوبته وأدبه) أي: عليَّ أدبه وعقوبته.

فمن وجب عليه حق للإنسان وحل وقت أدائه ولم يفعل، كأن يؤخر ويقول: لو أتيتني غداً، لو أتيتني بعد غد، لو جئتني وأنا غير مشغول، فإن هذا يوجب عقوبته وعرضه، أما عرضه فتقول عنه: آكل أموال الناس بالباطل، ولا تعد هذه شتيمة ولا سباً؛ لأنه ارتكب ذلك واستحقه.

وأما العقوبة فيباع عليه ماله؛ ليؤدى الحق ويؤخذ منه غلاباً وقهراً، وقد يعزر على تأخيره واتجاره في مال ليس له، فمن أبقى عنده الزكاة أكثر من وقتها بعد تمام نصابها فإنه يكون كمن أخذ مالاً لإنسان بغير حق، فأخذ يتاجر فيه ويربح به، فيجب عليه أن يؤدي المال لأصحابه، وإذا أراد أن يرفع عنه الأخذ فإنه يعطيه إما مناصفة أو يعطي الربح لأصحاب الزكاة؛ لأنه اتجر في مال لا يملكه.

قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧]، فهؤلاء يلازمون وقت الأذان والذكر والصلاة وأداء الزكاة، وهم في هذه الحالة يخافون في يوم القيامة ألا تقبل صلاتهم ولا زكاتهم، ولذلك تجدهم في خوف ووجل من يوم القيامة، فهذا اليوم تتقلب فيه القلوب وتصعد من مكانها إلى الحناجر، وتكاد قلوبهم تخرج من مكانها رعباً وفزعاً وهلعاً، والأبصار تزيغ وترى: هل سيأخذون كتابهم بأيمانهم أو بشمائلهم، وهل سيدخلون الجنة أو النار، وهل سيرحمهم الله أو لا، وهل سيقبل الله أعمالهم أو يرمي بها على وجوههم.

ولذلك يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة وخائفة ألا تقبل منهم، وقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل هؤلاء الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة خائفة مرتعبة هم الزناة وشاربو الخمر والسارقون؟ قال: (لا يا عائشة، لا يا ابنة الصديق! ولكن هؤلاء قوم صلوا وتصدقوا وعبدوا، ولكنهم يخافون يوم القيامة ألا يقبل منهم ذلك).