للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض)]

ثم قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:٥٧] أي: لا تحسبن أيها القارئ ولا تحسبن يا محمد يا رسول الله! أن ما تراه في يد الكفار من حكم ومن مال ومن جاه ظاهر، هو فضل لهم وعناية بهم، ولكنه استدراج وفتنة من الله لهم؛ لتبقى الحجة لله البالغة، عساهم أن يعودوا إليه يوماً، عندما يسألون بعد الموت: ماذا صنعتم فيما رزقكم الله فيه؟ هل آمنتم بربكم الذي رزقكم وأحياكم؟ هل آمنتم بنبيكم الذي أمركم عن الله ونهاكم؟ فعندما يقولون: لا، ستكون الحجة البالغة لله وحده، فيعذبون وتسجر بهم النار، ولا يكونون ظالمين إلا أنفسهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:١٨٢].

إذاً: فمعنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [النور:٥٧] أي: لا تظن أن الكفار الذين تراهم والكلمة كلمتهم كفارس والروم في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم بعده، أنهم يعجزون أو يفوقون ربهم، ولا يستطيعون أن يقولوا: بلغنا من القوة ومن السلطان ما لا يقدر علينا أحد، وإذا بالله الكريم قد وعد المؤمنين أن يجعلهم خلفاء الأرض وقد فعل، فحكموا فارس وحولوها من دار مجوسية ووثنية إلى دار إسلام إلى يومنا هذا، وقلصوا الروم وطردوهم عن الشام وطرد كثير منهم عن أرضهم فذلوا وأهينوا، والأمر سيبقى، والآية كذلك، ونحن نعيش اليوم فارس والروم القديمة، وهي أوروبا وأمريكا.

فلا تحسبن أيها المؤمن وأنت تتلو هذه الآية أن هؤلاء بما زعموه من قوة، ومن قنابل ذرية فتاكة، ومن أسلحة مدمرة، أنهم يعجزون الله فلا ينالهم عذابه ولا عقابه، وأن المسلمين لا يمكن أن يسلطوا عليهم أو يحكموهم يوماً، فلقد كانت الأمم قبلهم أعظم سلطاناً منهم، وأقوى شأناً وأغنى مالاً، فلم يعجزوا ربهم، وقد أدركنا بريطانيا في هذا العصر التي كان يقال عنها: لا تغرب عن رايتها الشمس، أين هي الآن؟! وكذلك فرنسا، ويوشك عن قريب إذا عاد المسلمون لربهم أن تجد هذه الدول الكبرى بسلطانها وجبروتها وطغيانها وظلمها حديث أمس الدابر، وكأنها لم تكن، ولن يعجز الله شيء جل جلاله، ولكن الأمر يرجع للمسلمين أنفسهم، أي: هل سيطيعون ربهم؟ وهل سيمتثلون أمره أمر نبيه؟ ويقومون بما وجب عليهم؟ أو يبقون هكذا دائماً في المؤخرة وراء الكافرين يهوداً ونصارى ومنافقين؟ فالكفار لا يعجزون ربهم ولا يحسبون أنه يقدر عليهم، أو على البطش بهم وإفنائهم، هيهات، لقد كانت الأمم والتي طال ما حدثنا الله عنها من عاد وثمود والفراعنة وفارس والروم وغير ذلك، كانوا أعظم سلطاناً، ومع ذلك دمرهم الله وأصبحوا كأن لم يكونوا، ورجعوا رمماً بالية، وملك الله أرضهم ورقابهم وأموالهم للمؤمنين، عندما كانوا مؤمنين حقاً، ومع ذلك لو يعودون إلى الله إلى دينه وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم، لعاد الله عليهم بأفضاله وبعزه وبنصره، فالقوة لله جميعاً وليست لأحد من الخلق، فهو القادر على كل شيء جل جلاله، ولكنه من حكمته يعز المؤمن عندما يعز المؤمن نفسه بطاعة ربه وطاعة نبيه، فإذا خرج عنه عاقبه، وما من عقوبة إلا بذنب ويعفو عن كثير جل جلاله وعلا مقامه.

فليسوا بمعجزين في الأرض وسينالهم الخراب والدمار والذل والهوان، وقد فعل ربنا، ولن يرفع يده عليهم جل جلاله، ومع هذا في الآخرة مأواهم النار هي مسكنهم ومنزلهم ومرجعهم، فيعذبون أبد الآباد, لا موت لهم فيها ولا فناء، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله سبحانه جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

ثم قال تعالى: {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:٥٧] أي: بئس المصير النار، فما أقبح وأشد بؤس من كانت نهايته ومصيره الذي سيصير إليه النار وغضب الله.

والله يحذرنا نفسه في الدنيا لعلنا ندرك حياتنا، ونستفيد من وجودنا ونعود إلى ربنا، يخاطب الله الناس كلهم في المشارق والمغارب، منذ نزل القرآن ونزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله، يدعو الله إليه الخلق كلهم عربهم وعجمهم، بيضهم وسودهم؛ ليعبدوا رباً واحداً، وليطيعوا نبياً واحداً، وليمتثلوا لكتاب واحد بلغة واحدة هي لغة محمد صلى الله عليه وسلم، وقومه الذين نشروا الإسلام بدمائهم وبأولادهم وبحياتهم وبكل ما يملكون من عزيز.