للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر رفض النبي عرض قريش عليه، وتحقيق الله له النصر والتمكين]

لقد عجز المشركون أن يوقفوا دعوته وأن يسكتوا لسانه، وأن يرعبوه ويخيفوه عن تتمة عمله وما أرسله الله به من بلاغ، فقد اجتمعوا إلى عمه أبي طالب وهو على دينهم وقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد أكثر علينا، وشتم آلهتنا، وسفه عقولنا، وذم الآباء والأجداد، ونسبنا إلى كل باطل، ونحن نريد أن تدعوه لنعرض عليه كل ما يمكن أن يريده ويسعى إليه، فحضر صلى الله عليه وسلم ووجد أبا جهل وشيبة وعتبة وعقبة بن أبي معيط، وصناديد من طغاة مكة وجبابرتها وكفارها وأعداء الله ورسوله.

وإذا بهم يقولون له بمحضر أبي طالب: يا محمد! لقد جاوزت الحد معنا، سفهت أحلامنا، وشتمت آباءنا، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، ولم يصبر أحد على ما صبرنا نحن عليه، ونحن نعرض عليك ما تسمع، إن كنت تريد بهذا أن تكون ملكاً علينا ملكناك، وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد النساء زوجناك ببناتنا وبنسائنا، إن شئت طلقناهن لك فتزوج منهن من شئت.

وإن كنت مريضاً جئناك بالأطباء من مختلف أصقاع الأرض ليعالجوك، وكان أبو طالب لا يزال ينظر نظرتهم ويدين دينهم، فقال له -وهذا ما أثار النبي عليه الصلاة والسلام-: يا ابن أخي! لقد أنصفوك، لقد أعطوك ما لم يعطوه لأحد.

وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

وإذا بهم يقومون وهم يحيصون حمر الوجوه ويقولون: ماذا يريد محمد؟ قد أعطيناه كل ما يمكن أن نعطيه، ملكناه وأغنيناه وأعطيناه نساءنا فماذا يريد؟! وهذا الذي لم يهتدوا إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ملكاً فهو أعظم من الملوك، وللملوك الشرف في أن يكون أتباعه.

فإن المال قد استغنى عنه ولا حاجة له به، فقد عرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، فأبى إلا أن يعيش نبياً عبداً.

وأما النساء فقد تزوج بعد ذلك تسع نساء، ولم يكن إذ ذاك متزوجاً إلا خديجة، فقد قنع بها ولم يتزوج عليها قط حتى ماتت، وقد تجاوزت الستين من عمرها، وكانت قبله أرملة من زوجين آخرين، ولدت من كل واحد منهما.

وتزوجها صلى الله عليه وسلم وهي تزيد عليه في السن خمسة عشر عاماً، إذ كان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاماً، ولو كان يريد النساء فمن ذلك الوقت لأخذ منهن من شاء ولكنه لم يفعل.

فأخذ خديجة لعقلها وفهمها، وأخذ خديجة لأن الله قضى أنها ستكون أول مؤمن به في الأرض، وأنها ستكون المؤازرة المؤيدة والمساعدة والمصدقة، وهكذا لم يتزوج عليها قط إلا بعد أن ماتت.

تزوج وقد كان عمره بعد موتها قد تجاوز الخمسين حيث يرغب الناس عن النساء، ولم يكن متفرغاً لذلك، لم يكن متفرغاً إلا لرسالة ربه وللدين الذي أرسل به، ولكنه تزوج كما يقال بلغة السياسة اليوم: زواجاً سياسياً.

فقد كان الزواج عند العرب يقرب الأرحام ويقوي الصلة بين العشائر والقبائل، والزواج بالنسبة للقبيلة يكون لحمة وحلفاً، ويكون سنداً وقوة.

وهكذا عندما تزوج بنت أبي سفيان عدوه الألد الذي قاد الجيوش في مكة في داخلها وخرج بها إلى المدينة حيث هاجر صلى الله عليه وسلم، وفعل معه الأفاعيل، وقاسى منه النبي عليه الصلاة والسلام الشدائد والبلايا والفتن، ومع ذلك فإن أم حبيبة ابنته كانت صالحة وكانت من الرعيل الأول الذي أسلم، فأسلمت قبل أبيها وإخوتها، وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة، وارتد زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة، وبقيت ثابتة راسخة مؤمنة بالله وبرسوله على العداوة التي بينه وبين أبيها.

وعندما علم بذلك صلى الله عليه وسلم وكان النجاشي أصحمة ملك الحبشة قد أسلم وآمن، فخطبها منه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.

وعندما بلغ الخبر أباها أبا سفيان ارتاحت نفسه وقرت عينه، وكاد يترك من العداوة والحرب، بل وقال للملأ من الناس عندما قيل له: محمد تزوج ابنتك، قال: ذلك الفحل الذي لا يجدع أنفه.

ومن تلك الساعة ضعفت المقاومة في نفس أبي سفيان، وأصبح يحارب كما يقال: بغير موضوع، فكان هذا الزواج وأمثاله مما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم حلفاء وأنصاراً، وجميعاً تزوجهن أرامل ليس فيهن بكر عذراء إلا السيدة عائشة رضي الله عنها.

وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذوا يضربون له الأمثال ويقولون: ساحر، ويقولون: يريد الملك، فقد كذبهم بذلك وسحقهم سحقاً، وتركهم يعتقدون في أنفسهم على الأقل أنهم يجهلون ماذا يريد.

سمعوه يقول النبوءة فلم يتصوروها، وقد أسر أبو سفيان والنبي زاحف على مكة فاتحاً ومقاتلاً ومجاهداً ومكافحاً، وجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسلمه لشريكه في الجاهلية عمه العباس، وإذا به يوقفه والجيوش المؤمنة تدخل مكة وهي لا تزال في الضاحية تزحف زحفاً، فيسأل أبو سفيان العباس ويقول: من هؤلاء؟ فيقول العباس: قبيلة فلان، وقبيلة فلان، وقبيلة كذا، فيقول: ما لنا ولها، ما قاتلناها لتقاتلنا، إلى أن جاء القلب، إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامه الجيوش وخلفه الجيوش وعن يمينه ويساره من الرجال والخيل والسيوف والرماح المشرعة ما لا يحصى، وهم في لامة الحرب الكاملة لا تكاد تظهر منهم إلا أعينهم.

فقال أبو سفيان للعباس: ومن هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله، وإذا بـ أبي سفيان يقول للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، حتى في هذه الساعة لم ير في هذا المظهر كله إلا أنه طلب الملك فوصل إليه، وهو لو كان يريده فإنهم قد عرضوه عليه من قبل.

ولقد وفروا عليه لو شاء زمناً ووقتاً ودماءً وحروباً، وإذا بـ العباس يصيح فيه موبخاً: إنها النبوة يا أبا سفيان، فيقول أبو سفيان: والله يا أبا الفضل! لا يزال في نفسي من هذا شيء، ومع ذلك استسلم وخضع، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل تزوج ابنته.

قال تعالى: {فَضَلُّوا} [الفرقان:٩] أي: لم يهتدوا بل تاهوا عن الحق، وجهلوا الذي حدث، ولم يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بينهم إلا أنه يتيم أبي طالب، وحفيد عبد المطلب وابن عبد الله.

أما أنه سيد الخلائق وخاتم الأنبياء، وأنه المرسل إلى الناس كافة لا نبي بعده ولا نبوءة ولا رسول ولا رسالة، فهذا ما عمي القلب عنه، وما عميت البصائر عن معرفته والنظر إليه.

فقوله تعالى: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:٩] أي: عجزوا عن الطريق القويم الذي يوصلهم لمعرفة من أنت يا محمد! فبغضهم لك وعداوتهم وحسدهم وفتنتهم مع أنفسهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر جعلهم يجهلون من أنت، وماذا تريد، فضلوا في أنفسهم ولم يستطيعوا الطريق السوي الذي يوصلهم لمعرفة من أنت.