للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)]

قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:١٤].

يخبر تعالى عن هؤلاء أنهم جحدوا بهذه الآيات التسع، وجحدوا برسالة موسى وهارون، وجحدوا بالحق البين المنير، فجحدوا بهذه الآيات وكفروا بها وأنكروها ولم يؤمنوا بها، على أن أنفسهم قد استيقنتها، فكانوا على يقين ثابت من أنها من الله وليست سحراً، وأنها نور وليست ظلاماً، وأنها هداية وليست ضلالاً، فأنكروا الحق الصراح وحاولوا أن يغلفوه بالأباطيل والأضاليل، فكان ذلك ظلماً لأجل الشرك الذي ابتلوا به وران على قلوبهم فأبصروا الباطل ولم يبصروا الحق.

فهؤلاء قوم استعبدوا بني إسرائيل وتصرفوا فيهم بالبيع والشراء، واتخذوهم لأعمالهم القاسية التي لا يكاد يطيقها العصبة أولو القوة ظلماً وعلواً وطغياناً.

قال الله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:١٤].

فانظر نظر القلب، فهؤلاء بظلمهم وباستعلائهم وبجحودهم للحق وقد تيقنت به نفوسهم كانت عاقبتهم أن أذلهم الله وأغرقهم في اليم، وأورث أرضهم وأموالهم ونعيمهم وجنانهم وكنوزهم لمن كانوا يستعبدونهم ويحتقرونهم ويبيعونهم بيع الدواب بدراهم قليلة معدودة.

فنصر الله الحق في شخص موسى وقومه، وأذل الباطل في شخص فرعون وقومه.

وعندما هاجر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فنحن نصومه شكراً لله، فقال: (نحن أولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وفي سنة وفاته عليه الصلاة والسلام قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)، رغبة في مخالفة الكفار واليهود.

فكان صيام ذلك اليوم ذكرى، وكان شكراً من نبي الله ومن أمته المسلمة الموحدة.

وهكذا كان للحق أنصار ورموز، وكان للباطل أنصار ورموز، فإذا ذكر موسى ذكر معه الحق منتصراً، وإذا ذكر فرعون ذكر معه الباطل منهزماً.

فالله جل جلاله أعاد ذكر هذه القصة بهذا الاختصار وفيها وصف لموسى عبده وكليمه، ففي ذلك إجلال له وإجلال للبشرية في شخصه.

كما أن الله تعالى أكرم بني آدم بأن خلق أباهم آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وهكذا اختار عبداً من سلالة آدم فكرمه وشرفه بالكلام، ثم شرف وكرم بعده خاتم الأنبياء بما لم ينله ملك مقرب ولا نبي مرسل في ليلة الإسراء والمعراج، فما كان الناس يؤمنون به غيباً آمن به النبي صلى الله عليه وسلم شهوداً وحضوراً.