للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير)]

قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:١٦].

يخبر سليمان بأن الله زاده على ما أعطى أباه شيئاً آخر، فقد علّم الله تعالى سليمان منطق الطير، أي: فهم لغة الطير والكلام معه، والألف واللام للجنس، أي: جميع أجناس الطيور، فكان يفهم لغاتها وتفهم عنه كذلك لتتلقى منه الأمر والنهي، فقد كانت جنداً من جنده، وكان ذلك مما أكرم الله به سليمان وخصّه به دون الأنبياء السابقين، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد كلّمه الحيوان وكلّمته الأشجار وكلّمته الأخشاب وهي ميتة، ففهم عنها وفهمت عنه، وحصل له ما لم يحصل لمن سبق، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب على جذع في مسجده النبوي، فأرادوا أن يصنعوا له منبراً، فلما صنعوه ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة على الجذع، فأخذ يحن حنين الناقة عندما تفقد فصيلها، وسمع حنين هذا الجذع كل من كان في صلاة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والرجال والنساء.

فما من معجزة أُعطيها نبي من الأنبياء قبل إلا وأُعطيها نبينا عليه الصلاة والسلام وزيد عليها، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:٢٥٣].

قال المفسّرون: الذي رفعه الله درجات هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رفعه الله درجات فوق موسى وفوق سليمان وفوق داود وفوق إبراهيم وفوق نوح وفوق أبيه آدم كذلك، ومن هنا اختص يوم القيامة بالشفاعة العظمى دون جميع الأنبياء والمرسلين، حيث يذهب الناس يوم القيامة إلى أولي العزم يريدون منهم أن يشفعوا لهم عند ربهم لفصل القضاء، وكل منهم يقول: نفسي نفسي، إلى أن يصلوا إلى عيسى، فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: (أنا لها، أنا لها) ثم يذهب فيخر ساجداً تحت ساق العرش، وهو المقام المحمود الذي سمّاه الله، وجعله له على رءوس الخلائق، وقد أخذ الله من جميع الأنبياء السابقين العهد على أن من أدركه وعاصره منهم أن يؤمن به، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني) وموسى كليم الله، ومع هذه الرتبة العلية والمنصب الرفيع لو عاش لما وسعه إلا أن يكون تابعاً من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن عيسى -وهو آخر أنبياء بني إسرائيل- سينزل في آخر الدنيا، وهو من علامات الساعة الكبرى، فسينزل إلى الأرض من السماء وهو على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وسيصلي صلاته ويحج حجه ويزكي زكاته ويصوم صيامه ويصلي خلف أئمة المسلمين، وبذلك أصبح صحابياً، ومن هنا ترجم له من كتب في تراجم الصحابة، كالإمام الحافظ العسقلاني في كتاب الإصابة؛ لأن تعريف الصحابي يشمله، فالصحابي هو من آمن برسول الله حياً ورآه ومات على ذلك، فقد رأى عيسى نبينا ليلة الإسراء في سماء الدنيا، ورحّب به أخاً، وسينزل عيسى بعد ذلك وسيبقى على دين محمد ويموت على دين محمد صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

قال تعالى عن سليمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:١٦] يُذيع في الناس قائلاً: قد أكرمنا الله بأن علمنا منطق الطير، وذكر صوت الطير بأنه منطق لأنه لغة فهمها سليمان.

قال تعالى عنه: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:١٦] آتى الله سليمان من كل ما يحتاج إليه الملوك، أعطاه من القوة، وأعطاه من الجيوش، ومن السلطان، وأعطاه من الذهب والفضة، وأعطاه من البُسُط التي يطير بها في الهواء، وأعطاه من الجند الذين يخضعون له جناً وإنساً وحيواناً وطيراً، وهو أحد الملوك من الأنبياء الكبار، فشكر سليمان الله معترفاً بأن هذا هو الفضل المبين الظاهر.