للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل)]

قال الله جل جلاله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٧ - ١٨].

لا نزال مع سليمان عليه السلام في قصته مع جنده من الجن والإنس والحيوان والطير، وما خصه الله به دون الأنبياء السابقين من الجمع بين الملك والنبوة.

فهنا أخبر الله جل جلاله بأن سليمان جمع له وحُشد له وحُشر له جيوشه من الجن والإنس والطير، ((فَهُمْ يُوزَعُونَ)) أي أن النقباء والقادة من جيشه كانوا يكفّونهم وينظمونهم ويرتبونهم كما تُرتب الجيوش، فهذا أمام هذا وهذا خلف هذا، وهذا عن اليمين وهذا عن اليسار.

وذكر أن جنده بلغوا مئات الآلاف، ويظن أن ذلك مبالغ فيه وأنه من الإسرائيليات.

ومما ذكروه أنه كان ملكاً على كل الأرض، وهذا لا يُعرف؛ إذ كان سليمان نبياً أُرسل إلى قومه من بني إسرائيل خاصة كبقية أنبياء بني إسرائيل، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وكان الأنبياء يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) وكون الدين عالمياً لا يُعرف إلا في دين الإسلام الخاتم وفي رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

فقوله تعالى: ((فَهُمْ يُوزَعُونَ)) أي: ينظمون ويكفّون، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أي: يدفع ويكف، فكثير من الناس لا يؤثر فيهم وحي الله ولا أمر الله ولا أمر نبيه، فإذا هُددوا بالسياط وبالسيوف تجدهم قد رُعبوا وذلوا وخضعوا خوفاً من القوة لا خوفاً من الله، والناس ليسوا سواء.

قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل:١٨].

أي: حتى إذا أتى هذا الجيش المحشود من الجن والإنس إلى واد النمل.

وقد قال قوم: وادي النمل في الشام، وهذا هو الأقرب إلى الواقع، وقال كعب: في الطائف، ومن المعلوم أنه لا يزال إلى اليوم في أرض الطائف على بعد ثلاثة أميال منها واد يسمى وادي النمل، وقد قيل: إن نمل هذا الوادي يكاد يكون قدر الأنملة أو يزيد، ويعلم هذا كل من وصل إلى هناك من أهل البلاد والسائحين والمارين، والوادي: هو الطريق بين جبلين.

فالنملة رأت الجيش اللجب الكثير المتراص من الجن والإنس والطير، فإذا بها تصيح في بقية النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل:١٨] كي لا يسحقكم سليمان بأقدامه مع جنده ((وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) لصغر النمل وحقارته، وكثرة الجيش.

وكان من خصائص سليمان إدراكه قول النمل وفهمه له، وقيل: إن الله سخّر لسليمان الريح، فتارة تحمله وجنده على بسط يتنقل بها حيث شاء من أرض الله، وتارة تحمل له الريح ما يقوله عنه الجن والإنس والدواب والطير، وكان مما حملته الريح إليه كلام هذه النملة، فسمع ذلك سليمان.

قال تعالى عنها: ((لا يَحْطِمَنَّكُمْ)) أي: لا يسحقنكم ولا يدوسنكم، فتذهبون تكسيراً وتحطيماً بين أرجله وجيوشه ((وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) أي: حال كونهم لا يشعرون بما جرى لكم ولم قالت كذلك؟ لقد علمت أن سليمان نبي من أنبياء الله لا يظلم، وأنه إن حدث شيء من ذلك يحدث بغير علم منه وبغير شعور منه، ولو أدرك ذلك وشعر به لحرّمه ومنعه وعاقب عليه، ولكن هذه النملة كبقية النمل والدواب والطير أيام سليمان، علمت بأن ذلك لن يكون؛ لأن سليمان نبي عادل، ولا يليق بأنبياء الله ورسله إلا العدل، ولذلك لم تتصور أن يسحقها ويسحق النمل إلا إذا كان ذلك بغير شعور منه ومن جنده.