للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وتفقد الطير)]

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠].

قال تعالى: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)).

يقال: تفقد فلان كذا، أي: بحث عنه حين شعر بأنه مفقود غير موجود، وتفقّد فلان عمله: ذهب ليرى العمل هل يسير كما هو مطلوب، وهل العاملون يعملون كما خطط لهم.

قال تعالى: ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)) تفقّد سليمان الطير، وما سبب تفقُّد الطير وهو بين جنده في سياحته وفي تنقله؟! قيل: كان سليمان إذا خرج سائراً ماشياً على الأرض تظلله الطير بأجنحتها من حر الشمس، وتحرّك أجنحتها لتخفف عنه حرها وأذاها، وكان إذا نزل نزلت معه وانتظرت أمره، فكان إذا نزل في الصحاري والقفار يبحث أول شيء عن الماء، وكان الهدهد من خصائصه أنه يرى الماء في تخوم الأرض كما نرى نحن الماء في الزجاجة، فقد أعطاه الله من قوة البصر ما يشق به الأرض نظراً إلى تخومها فيرى المياه في أعماق الأرض، فيشير على سليمان أن: انزل هنا، فهنا الماء.

فيأمر الجن بحفر الأرض مهما كانت المياه بعيدة.

وفي ذلك اليوم احتاج إلى الماء فبحث عن الهدهد فلم يجده.

قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠] ولم يقل تعالى: وتفقد الهدهد، وذلك أنه كان على الطير كذلك وازع ونقيب مسئول ومكلّف، قالوا: وكان وازعها والمكلّف بها هو الصقر، والصقر قوي البصر كذلك، يعلو إلى أجواء الفضاء بحيث تصبح الأرض بين عينيه كالصحن بين يدي الآكل والشارب، فالصقور كانت تحرس الطيور في طيرانها وذهابها وإيابها، فتأمر من يتقدم ومن يتأخر.

فتفقد سليمان الطير فسأل عن الصقر فحضر، وسأل عن الهدهد فلم يحضر {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠] والهدهد طائر معروف موجود في كل مكان لطيف المنظر ذو عرف من شعيرات مرتفع القدمين والرجلين ذو عينين حادتين تظهر حدتهما من قرب لمن يراه.

وقوله: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:٢٠] يقال في اللغة: مالي لا أرى فلاناً، أي: ما باله لا يرى.

وقوله: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:٢٠] أي: أم كان غائباً فلم يحضر.

وعدم حضوره وسليمان وجنده بحاجة إلى الماء يُعتبر جريمة يستحق المخالف عليها كل عذاب وكل عقاب وكل محنة؛ لأن هذا الجند على كثرته معرض للعطش ومعرض للعطب، والعطش في الصحاري -خاصة في الأيام الحارة الشديدة- يُسرع بالموت إلى العطاش الذين تجف حلوقهم من الريق، فقد يصبر الإنسان على الطعام أياماً ولا يصبر على الماء إذا اشتد الحر.