للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء)]

قال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:٨٠].

فهؤلاء في كفرهم وابتعادهم عن الحق كالموتى، فكما أن الموتى لا يسمعون ولا يعون ولا يدركون فكذلك هؤلاء، ولو أن لهم آذاناً، فهم لا يسمعون بها، ولو أن لهم أعيناً، فهم لا يبصرون بها، ولو أن لهم قلوباً، فهم لا يفقهون بها، فهم كالأنعام، بل هم أضل، لأنهم موتى العقول والقلوب، فحياتهم أشبه بموت، وموتهم أشبه بحياة، فالميت لا يسمع ولا يعقل ولا يدرك، فقد غطى الران قلوبهم وابتعدوا عن الحق فهم كالصم، فكما أن الأصم لا يسمع لأن الله أفقده السمع، فكذلك هؤلاء لا يسمعون ولو أن لهم أسماعاً؛ لأن أسماعهم لا يستفيدون منها، فلا يسمعون الحق، ولا يؤمنون به.

يقول تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:٨٠].

والصُمّ: جمع (أصم)، وهو من يفقد السمع فلا يسمع، فهؤلاء موتى لا حياة لهم، وهم صم لا سمع لهم.

وقد يقول قائل: إن الأصم لا يسمع، سواء أكان مقبلاً أم مدبراً، والله يخبر هنا أن نبيه لا يسمع الصم إذا أدبروا، فهل معنى ذلك سماعهم حال الإقبال؟!

و

الجواب

أن الأصم قد يفهم منك بالإشارة عندما يكون مقبلاً عليك، وقد يسمعك إذا صحت فيفهم من إشارات صوتك ما تريد أن تقول له، ولكن هذا الأصم عندما يدبر عنك ويوليك قفاه وظهره لا يرى إشارات ولا يسمع صوتك مهما علا، فهو لا يسمع.

وهكذا شبه الله الكفار من بني إسرائيل وغيرهم بأنهم موتى، والموتى لا يسمعون، وبأنهم صم مدبرون، فهم أبعد ما يكونون عن السمع وعن الوعي وعن الإدراك، فالرسالة لم ينتفعوا بها، فأبوا إلا الضلال والبقاء على الكفر والوثنية، فهم موتى لم يستفيدوا من الحياة، وهم صم قد فقدوا الفائدة من السمع، ومع ذلك فالأنبياء جميعاً رسالتهم التبليغ، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٥٤].

فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه الهداية، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:٢٧٢].

فالهداية من الله، وأما البلاغ ونشر الدعوة فتلك وظائف الأنبياء، وتلك أعمال الأنبياء، وذلك ما يجب عليهم، فمن آمن فلنفسه اهتدى، ومن كفر فعلى نفسها جنت براقش، والنبي ليس عليه إلا البلاغ المبين الواضح، فالله يقول لنبيه: إنك قد بلغت وأمرت ونهيت، فليس عليك هداهم، فالهداية ليست بيدك، وإنما عليك البلاغ وقد فعلت، فتبين أنهم موتى لا يسمعون ولا يهتدون، وأنهم صم لا يستفيدون من سمع.