للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون)]

قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣].

جاء وهو عطشان محتاج للماء والطعام، ولكن الطعام قد يصبر عليه الإنسان أياماً، أما الماء فلا يستطيع أن يصبر عليه ساعات عند اشتداد العطش واشتداد الحر.

قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) الورود: الدخول، والمراد البلوغ، أي: بلغ البئر التي تستقي منها قبائل مدين في أرض مدين.

لما وصل إلى البئر أخذ كفايته من الماء، ورأى ازدحاماً من الشباب الأقوياء من الرعاة للغنم في سقي غنمهم وقطعانهم، وأخذهم الماء لبيوتهم، ورأى امرأتين خلف الناس، بعيدتين عن الناس، تذودان غنمهما وتدفعانها وتحبسانها؛ لكي لا تختلط بغنم الغير فتضيع عليهما، ولا تستطيعان المزاحمة مع الرجال، أولاً: لأنهما أضعف من الرجال ثانياً: لأنه لا يليق بالمرأة أن تُزاحم الرجال، فهما تنتظران أن يذهب هؤلاء ثم تستقيان، وقد يطول ذلك اليوم بكماله إلى العصر أو المغرب.

قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس) أي: وجد على ماء مدين جماعة من الناس.

قوله: (يَسْقُونَ) أي: يشربون ويسقون أغنامهم، ويأخذون الماء لدورهم للسقيا.

قوله: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان) ووجد خلف الناس امرأتين تدفعان وتحبسان أغنامهما على ألا تختلط بأغنام أولئك.

فوقف ونظر ذلك المنظر، وكأنه أشفق على هاتين المرأتين أن تكونا في هذا العذاب أمام هذه الجماعة من الرجال الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم، ولا يقدّمونهما لا شفقة لأنوثتهما، ولا خشية على ضعفهما، وإذا بموسى يتقدم ويسألهما: ما خطبكما؟ لم أنتما خلف هؤلاء؟ ولم أنتما في هذه المشقة؟ (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: لا نستطيع السعي لسقي أغنامنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: حتى يذهب الرعاء وينتهوا من السقي، ونبقى وحدنا دون زحام، ودون مقاتلة مع الرجال والشباب.

والرعاء: جمع راع كتاجر جمعه تجار، والمعنى: لا نستطيع سقي أغنامنا حتى يذهب هؤلاء، ويرجعوا عن السقي ويعودوا إلى مكانهم، عند ذلك نجد المكان فارغاً، والبئر ليس عليها ازدحام، فنسقي أغنامنا.

واعتذرا فقالا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) بمعنى: هما ليستا بمتزوجتين، ولا رجال لهما يقومون مقامهما، وليس لهما أخ يقوم بمثل هذا، وأبوهما الذي سيفعل هذا رجل كبير عاجز عن السقي والرعي، وعاجز عن خدمة داره وبناته.

وإذا بموسى عليه السلام يشفق عليهما ويسعى لخدمتهما طلباً للأجر والثواب، وشفقة ذاتية من شخصه، وهذه المرحلة الثالثة من حياة موسى؛ وكانت المرحلة الأولى التي قصها الله علينا مرحلة ولادته ورضاعه ونشأته عند فرعون، وكانت المرحلة الثانية كبره وخروجه للشوارع والأسواق، وقتله للقبطي، والمحاولة الثانية لقتل قبطي آخر، وإذا به يترك القصر ويقول: لن أكون ظهيراً ولا مساعداً للمجرمين بعد اليوم، فينذر ويخوّف من مؤمن آل فرعون بأن يترك البلد ويخرج، وإلا فـ فرعون والأقباط قاتلوه، فترك مصر وخرج هائماً على وجهه لم يسبق قبل أنه ترك أمه وترك أخواته وقومه، وخرج على وجهه لا يدري أين يذهب.

ولكن من أول مرة قصد أن يذهب إلى أرض مدين وهو لا يعرفها، فسأل ربه جل جلاله أن يهديه إليها، ففعل، وهدي إليها ووصل، وكان أول ما وجد القوم على ماء مدين يسقون الأغنام ووجد بين هؤلاء الرجال امرأتين بكرين لم تتزوجا بعد، ولا أخ لهما، وأبوهما رجل كبير يعجز عن السقي والرعي، وعن خدمة البيت، فالبنتان هاتان هما اللتان تقومان بعمل الرجال، وهي عادة بدوية لا يستغني البدوي عنها وهم في حاجة إليها، وكان هؤلاء في البدو.