للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين في المدينة]

والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرخى العنان للمشركين، وتركهم مع المسلمين.

ومن وقائع مواقف المسلمين مع المشركين: أن أحدهم بالأمس كان له صنم في فناء بيته، وكان يُعنى به ويعطره ويطيبه، ولم يكن ابناه قادرين أن يقولا لأبيهما شيئاً، وأرادا أن يلقناه درساً! ماذا يفعلان؟ عمدا إلى هذا الصنم فنكساه ليلاً، فيصبح أبوهم فيلقى الصنم منكساً، فيغضب لهذا، فيعدِّله ويثبته.

ثم طال الزمن وقال: أنا تعبت معك، لو أعلم من الذي يفعل فيك هذا لانتقمت لك؛ لكن هذا السيف عندك، من عدا عليك فانتقم لنفسك، فمن الغد لا وجد الصنم ولا وجد السيف.

أخذا هذا الصنم وأخذا السيف معه وبحثا عن كلب ميت، وجاءا وربطا الكلب والصنم ورمياه في بئر معطلة، فلما أصبح لم يجده، فأخذ يبحث يميناً ويساراً حتى وجده، وأراد الله له الهداية.

وكما قلنا: إن أهل الوثنية كانوا على الفطرة، لكن تحتاج من يقشع عنها الغشاء.

فلما نظر قال: لو كنت إلهاً حقاً ما قرنت مع كلب ثم رده وغسله ووضعه محله؛ ولكن ترك عبادته، وقليلاً قليلاً تركه بالكلية، ورجع إلى صوابه وأسلم، فكان المسلمون مع المشركين وهم كلهم من جنس واحد ومن عائلة واحدة ومن قبيلة واحدة، كانوا يأتون ببعضهم وكان بعضهم يتبع بعضاً.

مصعب بن عمير لما جاء المدينة قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بني عبد الأشهل، وجاء سعد بن معاذ فجلس هناك ومعه بعض الأشخاص، فقال سعد لأحد جلسائه: اذهب إلى هذا الرجل وقل له: (اذهب عنا لقد أفسدت علينا شبابنا) وكان ما زال على الشرك؛ فجاءه وتكلم عليه.

فقال له مصعب: أوَ غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن تجلس وأعرض عليك ما عندي، فإن قبلته فبها ونعمت، وإلا كففتُ عنك ما تكره.

قال: أنصفت.

لاحظوا العقل! حاكمه إلى عقله، فطلب منه أن يجلس فيسمع ثم يشاور عقله، فإن وجدت وصاحبه أيضاً عاقل قال: أنصفت، وركز رمحه وجلس يستمع، فلما عرض عليه الإسلام وقرأ عليه شيئاً من القرآن قال: نِعْم هذا! ونطق بالشهادتين ورجع لأصحابه.

قال جليس سعد: والله لقد رجع إليك فلان بوجه غير الذي ذهب به عنك قال له: ماذا قلت؟ قال: قلت له ما أمرتني به.

قال: ما أغنيت عني شيئاً، ثم قام وجاء، إلى مصعب فقال له تلك المقالة.

قال له جليسه: هذا سيد بني الأشهل، اصدِقِ الله فيه، وهنا رأس مال الداعية إلى الله، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩]، فلما جاءه أيضاً تكلم عليه واشتد في الكلام.

قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس وتسمع ما أقول، فإن طاب لك فبها ونعمت، وإلا كففت عنك.

قال: أنصفتَ.

وركز رمحه وجلس، فلما سمع قال: ما أحسن هذا! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟.

قال: يغتسل وينطق بشهادة الحق.

فذهب فاغتسل وجاء ونطق بشهادة الحق، وذهب إلى قومه ووقف وقال: يا معشر بني عبد الأشهل! ما تعلمونني فيكم؟ قالوا: سيدنا.

قال: كلامكم عليَّ حرام رجالكم ونساؤكم وكبيركم وصغيركم حتى تشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأن محمداً رسول الله؛ فباتوا عن بكرة أبيهم مسلمين.

ماذا فعل مصعب مع هؤلاء؟ صدَقَ الله فيهم، وأخذهم باللطف وأسمعهم كتاب الله.

وهكذا الوثنية ما لم يكن فيها عناد، انظر إلى الوليد لما سمع القرآن قال: (والله إن لِكلامه لَحلاوة ... ) إلى آخر كلامه، ولكن العناد الذي حصل كان سببه كما قالوا: حملوا فحملنا، وأطعموا فأطعمنا، ثم قالوا: منا نبي، فماذا نقول نحن؟ فكان امتناعهم عناداً.

فهذه الوثنية أمرها هيِّن؛ لكن الخطر كل الخطر، مِمَّن يحمل الحقد والحسد.

<<  <  ج: ص:  >  >>