للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حصار قريش للمسلمين]

توفي عم النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها.

كانت الشدة التي وجدت في مكة حينئذ لم يسبق لها نظير في العالم، فقد تآمرت قريش على بني هاشم خاصة ليقاطعوهم، وكتبوا الصحيفة الظالمة في خيف بني كنانة، وفيها: لا نزوجهم ولا نتزوج منهم، ولا نبيعهم ولا نبتاع منهم.

فوقع عليهم حصار اقتصادي واجتماعي، وانحصروا في الشعب، هل هناك مضارة أكثر من هذا؟ يقول ابن هشام وغيره: حتى إن بعضهم كان يأكل ورق الشجر خديجة التي كانت ذات أموال طائلة لا تقدر أن تحصل على شيء منها، وكان الرجل يأتي في ظلام الليل إلى فم الشعب بالبعير عليه الطعام ويضربه لينطلق في الشعب! والحصار الاقتصادي من أشد ما يكون على الناس، سواء كان على الأفراد أو الجماعات أو الأمم؛ لأن الإنسان -كما قيل- مدني بطبعه، وقانون الحياة مبناه على المعاوضة، فلو صدق المسلمون في استخدام هذا الحصار لنجحوا، وهو أشد سلاح.

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وجاء الثلاثة الذين خلفوا يعتذرون، أوقع عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً، فمنع الناس من الكلام معهم، ثم أمرهم أن يرسلوا زوجاتهم إلى بيوت أهاليهن، قال كعب بن مالك: (أتيت إلى ابن عم لي في بستانه فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام! فقلت له: هل أنا مؤمن أو منافق؟ فما رد علي، فقلت: أتعلم أني أحب الله ورسوله، أم لا؟ فما رد علي، فكانت هذه أشد علي من غيرها.

ابن عمه لا يرد عليه حتى السلام! فالكل قاطعهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما حكى الله عنهم.

إذاً: حينما يفرض حصار على أمة، ويشدد هذا الحصار، فهو أصعب ما يكون عليها؛ لأنك تعطل فيها الجبلة الإنسانية؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، وأنت تقطع عنه هذه المدنية، وتجعله في ضيق شديد، لا يحيا حتى كما يحيا الحيوان، فالحيوان يمكن أن يأكل من أي شيء، لكن إذا منعته المرعى والماء أصبح في طريقه إلى الموت.

كتبت الصحيفة، وقوطع بنو هاشم، وكان البلاء أشد ما يكون على المسلمين، ولما أراد الله إظهار معجزة لرسوله، جاء الرسول إلى عمه وقال: (يا عم! إن الصحيفة التي كتبوها سلط الله عليها الأرضة!).

وفي بعض الروايات: (فأكلت منها لفظ الجلالة!)؛ لأن الصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن يكون لفظ الجلالة في صحيفة ظالمة.

وفي بعض الروايات: (فأكلتها إلا لفظ الجلالة) لأن لفظ الجلالة محترم، ولا تسلط عليه الأرضة، على كل سلط الله الأرضة على الصحيفة، والأرضة هي: حشرة دون النمل الأبيض كما يقولون، فأكلت الصحيفة، وميزت بين لفظ الجلالة وبين غيره، سواء أكلته أو تركته.

فجاء أبو طالب إلى سادات قريش وقال لهم: الآن أفصل بينكم وبين محمد: لقد أخبرني محمد عن الصحيفة بكذا، فافتحوا الكعبة وانظروا فيها الصحيفة فإن كان صادقاً فعليكم أن ترجعوا عن المقاطعة وعليكم أن تنقضوا الصحيفة، وتعلموا أنكم ظالمون في ذلك، وإن كان كذب فيما قال أسلمتكم إياه، وشأنكم به.

وتآمر معهم أيضاً أربعة نفر من الكفار بالليل، فقالوا: كيف نقاطع أبناء عمنا وأرحامنا وأقاربنا، نحن نأكل ونشرب مع زوجاتنا وهم جائعون! فاتفقوا على الدعوة إلى نقضها، وأبو طالب لا يدري ما خبرهم، وهم يدرون عن خبر أبي طالب.

وفي الصباح جاء واحد من هنا، وواحد من هنا، بطريقة منظمة، وقام أحدهم وقال: يا معشر قريش! ما هذه الصحيفة التي كتبناها على بني عمومتنا، إنها لصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن تستمر، فقام الثاني وقال: نعم، إن هذا الحصار لباطل، وقام الثالث من هناك وقال: نعم، هذا الكلام الذي قالوه حق، ونحن لا نرضى بالصحيفة، وقام الرابع فقال مثل مقالتهم، فقال أبو جهل وكان داهية: هذا أمر دُبِّر بليل، أي: ليس وليد الساعة، بل هذا أمر متفق عليه من قبل، فلما قالوا تلك المقالة؛ قام أبو طالب وقال: أنا أكفيكم المهمة، لقد أخبرني ابن أخي بأن الصحيفة سلطت عليها الأرضة، وأخبرني بكذا وكذا، فقاموا إلى الصحيفة فوجدوها كما قال صلى الله عليه وسلم، فانفك الحصار.

قبل الهجرة وقعت شدائد، منها تعذيب الضعفاء: كـ بلال وعمار وياسر وأم عمار، وعندما توفي أبو طالب وتوفيت خديجة اشتد عليهم الأمر وقالوا: هذه سنة الشدة؛ لأن الأمر اشتد فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه المشركون بما لم يكونوا يجرءون عليه من قبل.

وفي هذه السنة ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان من أمر الطائف ما ذكرنا من قبل، ثم رجع ودخل في جوار رجل مشرك، له أبناء أربعة، فأخذ يطوف مع رسول الله ويعلن جواره له، وأبناؤه بالسلاح عند أركان البيت، وجاء أبو سفيان لما رأى هذا المنظر، فقال له: أمجير أم تابع؟ أي: أنت تطوف مع محمد، فهل اتبعته وصرت معه تناصره علينا، أم أنت ما زلت مشركاً معنا وإنما أجرته؟ قال: بل مجير، يعني: وهو لا زال مشركاً، فقال: قد أجرنا من أجرت.

وكان دخوله صلى الله عليه وسلم في جوار رجل مشرك عين الحكمة، ولم يدخل في جوار مسلم حتى لا تكون القضية قضية حماس وحمية، وتقوم حرب أهلية في مكة، والمسلمون في قلة لا يمكنهم أن يقابلوا المشركين، ولو قاتلوهم حينئذ لانتهت الدعوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>