للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة عمرو بن العاص مع النجاشي]

عمرو بن العاص استخدم هذا عند النجاشي لما أرسلته قريش ليسترد المهاجرين إليها انتقاماً لغزوة بدر.

ولما دخل على النجاشي ركع له كما يفعل أتباعه، وجلس عنده باحترام، وأخبره بأن جماعة جاءوا إليكم، وخرجوا عن دين آبائهم، ولم يدخلوا في دينك، فلما استدعاهم وبينهم جعفر، دخلوا عليه فلم يسجدوا له، قال: انظر إنهم لم يسجدوا لك، ولم يعتبروك عظيماً، يريد إثارة الملك عليهم، فقال: ما لكم لم تسجدوا لي كما يسجد الآخرون تحية؟ قالوا: ما كنا لنسجد لغير الله، وكانت هذه صفعة على عمرو، ثم قال: وما هذا الدين؟ قال: كنا في جاهلية وكنا وكنا فرحمنا الله وبعث فينا رجلاً منا، نعرف مولده ونشأته ونسبه، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، وصلة الأرحام، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، ولا نغدر بقريب أو بعيد، ولا ننقض العهد مع الجار والبعيد.

حينئذ كانت أيضاً صفعة من جهة ثانية على عمرو، فقال: اسأله: ماذا يقول صاحبهم في عيسى بن مريم؟ النصارى يقولون في عيسى: ابن الله، وبعضهم يقولون: ثالث ثلاثة، وبعضهم يقولون: الأب والابن وروح القدس، أشياء كثيرة يقولونها، فقال: ماذا يقول صاحبكم في عيسى بن مريم؟ قال جعفر: والله! لقد اشتد الأمر عليّ، ولكن لا أقول إلا ما قال الله في كتابه وأنزله على رسوله: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول وروح منه.

فأخذ النجاشي بيده عوداً من الأرض -أي: قشة صغيرة- وقال: والذي أنزل التوراة والإنجيل! ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى ولا مثل هذه، اذهبوا سيحوا في أرضي ما شئتم، وأسلم رضي الله عنه، فكان عمرو بن العاص يحب أن يصطاد في الماء العكر، ويثير النجاشي على المسلمين حتى يقول له: خذهم وردهم إلى مكة، فكانت النتيجة بالعكس.

أيها الإخوة إن المولى سبحانه وهو رب الحق وهو رب الدين يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:٣٣]، ويقول في آية الفتح: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:٢٨]، وفي الصف قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:٩] فهذا تحد.

أبو سفيان لما رأى أن الملك موافق ومصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعد بأن محمداً سيملك موضع قدميه، قال: أيها الملك! لأخبرنك بأمر تعرف به كذبه، قال: ما هو؟ قال: لقد أخبرنا أنه في ليلة جاء إلى مسجدكم هذا، وصلى فيه، ورجع إلينا من ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً! وفي عرف السياسيين هذه تعتبر كذبة كبيرة، كيف نحن نضرب إليه أكباد الإبل أياماً وهو ذهب ورجع في ليلة؟ هذا شيء لا يمكن تصوره في العقل أبداً، ولكن الأمور فوق العقل، الأمور إما أن تنسب إلى العبد المخلوق، وإما أن تنسب إلى الخالق رب القدرة ورب الكون، الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون، حينما قال أبو سفيان هذه المقالة، وقبل أن يفرغ هرقل من التعجب ومن الاستبعاد، نطق قائم على رأس هرقل وقال: نعم، لقد علمت بتلك الليلة.

ما هذه المفاجأة! هرقل فوجئ بخبر أبي سفيان، فإذا به يفاجأ بما هو أكبر! لو وقفنا عند هذه الأحداث نحلل ونتأمل، هل نقرأ السيرة على أنها أحداث؟ لا والله، هذه إرادة الله لتبرز حقيقة الرسالة المحمدية فتسخر لها أعداء الإسلام، فإذا بالملك ينتبه ويقول: وما أدراك بهذه الليلة؟ قال: كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، وأذهب بالمفاتيح، وفي تلك الليلة جاءني الخدم وقالوا: إن الباب الفلاني -سماه باب العمود أو باب كذا- استعصى علينا إغلاقه، فذهبت فإذا بالخشبة التي تحتها قد منعت الباب من أن يغلق، هذه عجيبة، وما هي بالسحر ولا هي مغناطيس، ينظرون بأعينهم أن الخشب قد منع الباب والخشب لا ينكسر فلم يبق إلا أن يهدموا الجدار، قال: فدعوت النجاجرة ولم يقل: النجارين، وهذه عبارة ابن كثير في البداية والنهاية، فدعوت النجاجرة، يعني: هم عمال لخدمة المسجد، إن احتاج نجارة أو سباكة أو أي عناية ببيت المقدس، فعالجوه فعجزوا عنه فقالوا: لقد أمسى الليل، ولا نستطيع معالجته الآن، فلندعه إلى الصباح وفي ضوء النهار نصلحه، فقلت: لا بأس، فغدونا في الصباح فوجدنا الخشبة قد رجعت محلها! والباب قد رجع إلى ما كان عليه! فعرفت أن بابنا لم يمسك إلا لنبي، فهذه دلالة قوية على صدق ما قال.

ماذا يقول أبو سفيان؟ أبو سفيان قدم هذه من أجل أن تكون حجة له على كذب محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك، فإذا بها تنقلب عليه! فصارت حجة عليه، وليس من واحد من أهل مكة من جماعته بل من خاصة الملك.

<<  <  ج: ص:  >  >>