للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تشابه مواقف الأنبياء في الأزمات]

هنا وقفة مقارنة بين أمور تختص بالغار، وأمور فيها عامل مشترك في جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.

أولاً: قال: الله في الآية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، لا نقول: إن النون في: (معنا) نون العظمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخلاقه التواضع، فيكون ضاماً معه أبا بكر، فمعية الله لهما.

وبالمقارنة مع هذا المأزق الضيق داخل الغار فهناك موقف آخر مشابه، وهو موقف موسى عليه السلام ببني إسرائيل على ساحل البحر، فإن الله أمره أن يخرج ببني إسرائيل ويمضي، قال: إلى أين يا رب؟ قال: حيث ترى السحابة فامش خلفها، فمشى وراء السحابة، فإذا بالسحابة توقفه على ساحل البحر، وأتبعهم فرعون وجنوده، فنظر من كان مع موسى فإذا البحر أمامهم والعدو وراءهم، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١]، لكن قال نبي الله موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء:٦٢].

فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول في هذا الموقف المشابه: (إِنَّ مَعِيَ)، وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

ولنعرف أيضاً منزلة الصديق ومشاركته الفعلية في الهجرة حتى استحق أن يكون داخلاً ضمن تلك المعية، ولذا جمع الضمير: (إن الله معنا) بينما موسى مع قومه كانوا خائفين وليسوا على مستوى موسى عليه السلام ويقينه بالله، بل اليقين الراسخ لموسى وحده، ولهذا أفرد الضمير في المعية فقال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، وما قال: (ربكم) فكانت ثقة موسى بربه وعناية الله بموسى أقوى وأشد من البقية؛ فهذه مقارنة في نوع المعية التي سجلها الله لرسوله وصاحبه في الغار.

{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:٤٠]، ما قال: (عليهما)؛ لأن النبي هو الأصل ومن سكينة الله عليه أخذ يطمئن أبا بكر: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، فقد كان أبو بكر خائفاً، وأشرنا إلى المقارنة بين خوف أبي بكر في الغار وطمأنينة أبي بكر في العريش في بدر.

أبو بكر في الغار خائف والرسول يطمئنه، وأبو بكر في العريش مطمئن والرسول مبتهل بالدعاء إلى الله، وفي غاية الضراعة: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد، اللهم انجز لي ما وعدتني) واجتهد في الدعاء حتى إن رداءه ليسقط في الأرض ويأخذه أبو بكر ويرده على كتفيه.

وأشرنا فيما سبق بأن الفارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار لم تكن توجد بعد جماعة ولا أمة يتحمل مسئوليتها في ذلك الوقت، ويعلم بأن الله معه ومع صاحبه، ولكن في بدر كان قد خرج بعدد من المسلمين وكانوا سبعمائة وأربعة عشر رجلاً، يقابلون ألفاً من المشركين بكامل العدة، إذاًَ: كان يجتهد في الدعاء من أجل غيره لا لنفسه، كما قال الله: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:٦] وقال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>