للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصة تبع اليمن وبناء بيت أبي أيوب الأنصاري]

من يقرأ كتب السيرة يجد روايات عجيبة لبيت أبي أيوب، وإن اختلفت في سياقها فإنها تتفق في المغزى والمعنى.

ما هو بيت أبي أيوب هذا؟ ومن أبو أيوب؟ يقولون: إن أحد التبابعة من ملوك اليمن مر بالمدينة وهو في طريقه إلى أفريقيا، وبعض الروايات تقول: وكان معه مائة وثلاثون فارساً وضعف ذلك راجلاًَ، ومعه من أجل العلم والحكمة العدد الكبير، فلما وصلوا إلى المدينة تبايع أربعمائة من أهل العلم والمعرفة ألَّا يخرجوا من المدينة مع الملك، مع أنهم جاءوا معه وهم رفقاؤه.

فسألهم الملك: علام امتنعتم؟ وعلام تحبون البقاء في هذه البلاد؟ قالوا: إن البيت -البيت العتيق- وهذه البلدة تتشرف ببعثة نبي آخر الزمان اسمه محمد، ونحن نقيم ننتظره.

فأراد أن يقيم معهم ووثق من كلامهم.

؛ لكن ما استطاع.

تقول هذه الرواية: فبنى أربعمائة بيت لكل واحد بيتاً، واشترى أربعمائة جارية فأعتقهن وزوج كل واحد بجارية وأعطاه عطاءً جزلاً، وبنى بيتاً حتى إذا جاء النبي سكن فيه، وكتب كتاباً وختمه بالذهب وأعطاه إلى كبير هؤلاء العلماء والحكماء، وقال: إن أدركته أبلغه سلامي وأعطه كتابي، ومما كتب فيه: شهدتُ على أحمد أنه رسول الله خالق النسم ولو طال عمري إلى عهده لكنت وزيراً له وابن عم شهد بأنه آمن برسول الله، ولو أنه أدركه لكان وزيراً له، أي: معيناً مساعداً وابنَ عمه.

وختم الكتاب وقال لكبير العلماء: إن أدركته فأعطه كتابي، وإن لم تدركه فأعطه لولدك، وولدك لولده، وولد ولدك لولده، حتى يصل إليه.

تقول هذه الرواية أيضاً: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وصل الكتاب إلى رجل اسمه أبو ليلى، فذهب به إلى رسول الله في مكة، فلما جاء به قبل أن يكلمه قال: (أنت أبو ليلى؟ قال: من أنت؟ والله ما وجهك بوجه ساحر، كيف عرفت أني أبو ليلى؟ قال: معك الكتاب كذا، قال: بلى) هذه رواية.

والرواية الأخرى تقول: إن هذا الملك لما مر بالمدينة خلف ولده عليها ملكاً، ومضى في سبيل رحلته، ثم أتى موسم جني الثمار فذهب إلى حائط رجل وصعد على النخلة وأخذ يجني من رطبها، وهي ليست مِلْكَه، فجاء صاحب النخلة وضربه بالمنجل في رأسه فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبَّر.

انظروا الحمية إلى أين؟! من أجل قليل من الرطب يقتل الملك عليها، وكما يقال: غمط الحق غصة، فليس هناك إنسان يقبل الظلم على نفسه، حتى الحيوان لا يقبل الظلم على نفسه، ولا يوجد إنسان يقبل انتهاب ماله وهو قادر على أن يرده؛ ولكن أما كان حقه أن يقول له: انزل، لماذا صعدت؟ وفي عودة الملك وجدهم قد قتلوا ولده، فأراد أن يقتلهم جميعاً، فحاصرهم، فكانوا يقتتلون نهاراً ويكفون عن القتال ليلاً، وطال الحصار إلى أن نفد طعام الجيش المقاتل، فقال أهل المدينة فيما بينهم: هذا الجيش ما عنده طعام، وليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً في النهار، ونأوي إلى بيوتنا ونسائنا نطعم ونشبع ونستريح.

فقالوا: نخرج لهم العشاء.

فتعجب الملك وقال: والله ما وجدت مثل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويُقْروننا ليلاً؟! جيش محاصِر يقاتل ولما نفد زادهم لم يقل عدوهم: الحمد لله غداً نأخذهم ونذبِّحهم.

بل قالوا: نطعمهم ونقاتلهم.

وأبت عليهم مروءتهم أن يقاتلوا عدواً يقع تحت وطأة الجوع، قالوا: ليست هذه مكافأة، مثل الفارس يقاتل راجلاً، فعليه أن يترجل مثله، أو يمهله حتى يجد فارساً يجول ويصول معه، وهكذا كانت شيمة العرب، الفارس لا ينازل إلا من كان عدلاً له فتعجب الملك من أمرهم؛ وبينما هو على تلك الحالة إذ خرج إليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة، وسألاه: أيها الملك! ماذا تريد؟ قال: أريد أن أنتقم لولدي وأستأصل أهل هذه القرية.

قالا له: إنك لن تسلَّط عليهم.

قال: ولماذا؟ قالا: إنها مهاجَر آخر نبي؛ أيهاجر إليها وهي خراب؟! ليس معقولاً.

ثم تكلما واستمع منهما، فوجد عندهما علماً، فاستأنس لهما وصدقهما.

فلما خاطباه وسمع كلامهما، ووجد عندهما علماً، اتعظ وتنازل عن دم ولده، وسأل أهل العلم، وهذا هو الواجب على الملوك والرؤساء والزعماء والقادة: أن يرجعوا إلى العلماء؛ لأن عندهم هدى ونوراً من الله، وهذان كانا على كتاب وعلى دين سماوي.

فقالا له: ارحل عنها، وابن بيتاً، فإذا جاء نبي ذلك الزمان لجأ إليه، فبنى بيتاً وكتب كتاباً.

فسواء كان اختيار المدينة من الأربعمائة الذين تبايعوا وتعاهدوا على البقاء ينتظرون، أو كان بسبب قتل ولد الملك، المهم أن الملك بنى بيتاً وكتب كتاباً ودفعه لكبير العلماء أو لواحد من أبناء هذين الحبرين.

وقالت الرواية الأولى: الأوس والخزرج من أبناء الأربعمائة.

وقالت الرواية الثانية: أبو أيوب من نسل كبير الأحبار الذين بقوا في المدينة.

فلما علم أن عندهما علماً قال: لابد أن تصحباني إلى بلادي اليمن، فامتنعا عليه، فقال: لا غنى لي عنكما، وأخذهما قسراً عليهما، فتبعاه.

وتتمةً للفائدة: فإن هذا الملك وهو في طريقه إلى مكة خرج عليه رجلان من هذيل، قالا: أيها الملك! إنك قادم على مكة، ونريد أن ندلك على كنز بها، إن أنت أخذته أغناك الدهر كله.

قال: وما هو؟ قالا: كنز في جوف بيت العرب.

يعنيان: اهدم الكعبة وخذ الكنز.

فلما سمع ذلك دعا الحبرين وسألهما، قالا: أيها الملك! لقد أرادا هلاكك.

غدراً بك، قال: ولأي شيء؟! قالا: إن هذا البيت هو البيت العتيق، أعتق من أيدي الجبابرة، ما تسلط عليه جبار إلا أهلكه الله، فأرادا لك الهلاك، وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر فأظهر لهما إذا أتياك قبولك والموافقة واصحبهما معك إلى مكة حتى يشتركان في الهدم.

فلما وفدا عليه من الغد قال: جزاكما الله خيراً، دللتماني على كنز عظيم، ولا أريد أن آخذ الكنز وحدي، وحيث دللتماني عليه لابد أن تذهبا معي ونقتسم المال.

فقالا: لا نريد منه شيئاً، هو لك وحدك.

قال: عجيب! تدلاني على كنز ولا تريدان منه شيئاً، إذاً: الأمر فيه خيانة، وضرب أعناقهما.

ثم سأل الحبرين: ماذا تشيران عليَّ إذا أتيت البيت؟ قالا: تدخله متواضعاً لله وحده، وتكرم جيرانه، وتكسوه.

انظروا يا إخوان! هاهم أحبار اليهود، وهاهو ملك المجوس وثني وهو في طريقه إلى الإيمان يعظم البيت ويسمع نصيحة العلماء في زمنه، فيدخل مكة متواضعاً، ويعظم حرمة البيت، ويكرم جيرانه، ويكسو الكعبة.

وصدق الله العظيم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:٩٦ - ٩٧].

فالبيت له رب يحميه من زمان قديم كما قال عبد المطلب: جئتك أطلبك إبلاً لي أخذه رجالك.

قال: قد كنتَ عظيماً في نظري والآن صغرت، جئت أهدم بيت عزك وشرفك ودينك، فتترك الكلام معي فيه وتكلمني في إبل؟! قال: نعم.

الإبل لي وأنا أطالب بها، أما البيت فله رب يحميه، لست أنا الذي أحميه.

وما أشبه الليلة بالبارحة! ينادون بإنقاذ الحرمين، وجهلوا وعميت بصائرهم عن واقع الحرمين، هل الحرمان مقفولان؟ الحرمان بلدان مفتوحان ليل نهار، والحرم في مكة مفتوح أربعاً وعشرين ساعة، والحرم في المدينة يُقفل ساعات من الليل، وما خلت الكعبة وقتاً من الأوقات من طائف لله، ففي كل وقت وفي كل أوان يأتيه رجال: ((وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج:٢٧] يطوفون ويسعون ويعتمرون.

ولكن إذا أراد الله فضيحة شخص جعل فضيحته من طريقه هو، والمسجد النبوي ما خلا من زائر أو مُصَلَّ من مسلم على رسول الله وصاحبيه.

لماذا هؤلاء الناس يأتون من جميع أقطار الإسلام، لماذا لا يوجد من قال كلمة ذم؟ بل العكس كلٌّ يعترف بالجميل، يرفع الواحد أكف الشكر لله أن يجد الحرمين في هذه النعمة، نسأل الله أن يديمها علينا وأن يتمها لنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>