للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نور القلوب وعماها]

والله عز وجل قال في القرآن: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد:١٦] لا تستوي، والنور هنا نور القلب، وليس نور البصر، فبعض الناس مبصر، فترى عيناه لكن لا يبصر قلبه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦].

فبعض الناس قلبه أعمى، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:١٩] فهل الأعمى هنا أعمى البصر؟ لا والله! بل أعمى القلب.

ابن عباس -كلكم يعرفه - عمي في آخر عمره، لكن قلبه ما عمي، فقلبه سراج، قلبه شمس وقمر بالعلم والفقه بالدين وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، دخل على شبيبة، فاستهزأ به بعضهم، وقالوا: لا أساءك الله في بصرك يا بن عباس، فقال يخبرهم أن النور ليس في العين، وإنما في القلب:

إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذو عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور

يقول: إذا عميت عيناي فما عمي قلبي، وإذا انطفأ نور العينين فما انطفأ نور القلب، بل قلبي مبصر، وحي عارفٌ بالطريق إلى الله عز وجل.

أتدرون من هو الأعمى؟

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الحجر:١٩] فالأعمى الذي لا يعلم أن هذا حق، وأن الإسلام خير، وأن المسجد فيه صلاح وبر: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الحجر:١٩].

من هو الأعمى؟

الأعمى قسمان:

رجل فقد النور من عينيه، فهذا لا يضره، بل هو كفارة له إذا كان من المسلمين، ففي صحيح البخاري عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا ابتليته بحبيبتيه فصبر إلا الجنة} والحبيبتان هما العينان.

وقد قيل لـ يزيد بن هارون الواسطي المحدث الكبير وقد عمي، قال له تلاميذه: أين العينان الجميلتان؟ قال: " أذهبهما والله بكاء الأسحار "، رواه الذهبي في السير، فهذا العمى في العين للمسلم كفارة.

عبد الله بن أم مكتوم أعمى، يخبر الله عنه في القرآن فيقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:١ - ٢] لكن قلبه ليس بأعمى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:١ - ١٠] هل تدري أن هذا الأعمى أفضل من ألوف من الذي تبصر عيونهم؟!

قال ابن كثير في البداية وهو يروي قصة عبد الله بن أم مكتوم، حين ذهب إلى القادسية؛ فأخذ الراية، فقال له الصحابة: إنك أعمى والله قد عذرك، قال: والله لأنفرن إلى المعركة؛ لأن الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:٤١] فسوف أنفر، فلما ذهب، أخذ الراية وهو أعمى ثم قتل في المعركة رضي الله عنه وأرضاه.

والله سمى القرآن نوراً، فقال: {ومَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] فالقرآن نور، وفي صحيح مسلم في كتاب التفسير، قال عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل: {قال جبريل: أبشر بنورين أوتيتهما، لا تقرأ بحرف إلا أوتيته، بسورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة}.

والنور -أيها الكرام الأبرار- يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في معرض الامتنان، فيقول عز من قائل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].

يقول ابن تيمية: " للإنسان ميلادان: الميلاد الأول يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني يوم تحلى بالإيمان "، فالله يقول في الميلاد الثاني: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢] أومن كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نوراً من العلم والحكمة يمشي به في الناس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>