للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الدعاء في ظهر الغيب]

الإخاء في الإسلام له حقوق، ومن حقوق الإخاء: دعوة الغائب للغائب، أن تدعو لأخيك بظهر الغيب، وأن تسأل الله -عز وجل- له التوفيق والسداد.

{عمر بن الخطاب ذهب يؤدي عمرةً -والحديث عند الترمذي - فاستأذن الحبيب عليه الصلاة والسلام ليأذن له أن يعتمر، فلما مرَّ ووقف في ساعة الوداع، قال له عليه الصلاة والسلام: لا تنسنا من دعائك يا أخي} عجباً! التلميذ يدعو لشيخه؟ الطالب يدعو لمعلمه؟ ورقة عمر من شجرة محمد عليه الصلاة والسلام.

كان عمر يتذكر هذه الكلمة، فنسي عمر كل شيء إلا هذه الكلمة، وغفل عن كل شيء إلا هذه الكلمة، كان إذا ذكرها في أيام الخلافة بكى، وقال: [[عجباً {لا تنسنا يا أخي من دعائك}.

كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها]].

وعند أحمد في المسند وغيره أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقدم عليكم رجل من أهل اليمن اسمه أويس بن عامر القرني، له والدة هو بها بار، أصابه برص فبرئ منه إلا موضع درهم، فمن لقيه منكم، فليطلبه ليدعو له، أو يستغفر له} سبحان الله! رجل لم يدرك الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه رجل صالح دعاؤه مقبول، في بعض الروايات: {يشفع يوم القيامة في مثل قبائل مضر يدخلهم بإذن الله الجنة}.

قدمت وفود اليمن سنة بعد سنة، وكان أبو بكر وهو خليفة ينتظر الوفود ويسألهم، لكن ما حظي بهذا، وتوفي أبو بكر، وتولى عمر وسأل قوافل اليمن: [[أفيكم رجل اسمه أويس بن عامر؟ حتى لقي وفداً قالوا: نعم فينا، قال: أين هو؟ قالوا: يرعى الإبل في الصحراء، وجئناك نسلم عليك -لم يكن له ميزان ومكانة من تفاهته عندهم في ميزان البشر وميزان الجاهلية، جعلوه يرعى الإبل- قال عمر: أله والدة هو بها بار؟ قالوا: نعم.

قال: أصابه برص فشفي منه وبقي منه أثر؟ قالوا: نعم.

قال: قوموا بنا، فقام هو وعلي على حمار والصحابة حوله]].

جزى الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد

سلام عليك يا عمر تركب الحمار ولكنك أرغمت الدنيا للا إله إلا الله، تركب الحمار، ولكن أبطالك دخلوا حدائق الأندلس بسيوف لا إله إلا الله، تركب الحمار، ولكنك دست تحت حذائك إمبراطورية كسرى وهرقل عظيم الروم، وأعلنتها في الخافقين أن لا حكم إلا لله.

عمر تاريخ أمة، ودستور حياة، وقصة مجد، فوصل إلى أويس ووجده يصلي الضحى ما عنده من الدنيا قليل ولا كثير.

ديننا هذا يجعل الإنسان المسكين الذي ينام على الرصيف خيراً من ملايين مملينة من الذين ينامون في ناطحات السحاب وهم لا يعرفون الله، صاحب القصور بلا إيمان دابة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٥ - ١٢٦].

[[وقف عمر عليه على أويس فقال: من أنت؟ قال: أويس بن عامر، فسأله قال عمر: ادنُ مني، فدنا، فقبله عمر، فبكى هذا الرجل -قبلة حظي بها من عمر بن الخطاب الزاهد الشهيد الشهير، هي خير من الدنيا وما فيها- قال: استغفر لي، فبكى أويس، وقال: يا أمير المؤمنين! أأنا أستغفر لك وأنت أفضل مني؟! -إي والله، والله لـ عمر أفضل من أويس وآلاف أويس، ولكن دعوة أويس طيبة- قال: استغفر لي، قال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، قال: أتبقى معي؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتركني في غمار الناس لا أعرف، فتركه في غمار الناس حتى مات]].

دعوة الصالح للصالح من أحسن ما يكون وأفضل الدعاء دعوة غائب لغائب.

وصل ابن الإمام الشافعي بعد وفاة أبيه إلى أحمد، فقال له أحمد: أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم في السحر وأنا في السجود، سبعة أسماء كان يحفظها أحمد بأسمائهم وأسماء آبائهم، اللهم اغفر لفلان بن فلان، وفلان بن فلان سبعة، وهذا يوم كان حب الله في قلوبهم، فلما نزل حب الدنيا في قلوبنا؛ تحاسدنا وتباغضنا وتقاطعنا وتحاربنا إلا من رحم ربك.

أيعقل أن أمة تربى على الكتاب والسنة يجلس عند القضاة الصهر مع صهره؟!

سل المحاكم والقضاة، أصبح النهب والسلب والقتل بين الجيران والأرحام، جار ما سلم على جاره أكثر من عشر سنوات من أجل قطعة أرض، أمة أعرضت عن نور الرسالة وملأت قلوبها بالتراب؛ فامتلأت غضباً وحقداً وحسداً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>