للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بابك وأبو مسلم الخراساني]

ومنهم: بابك الخرمي.

فقد قتل من العرب والعجم ومن الكفار والمؤمنين، ألف ألف رجل، وهو أعظم مجرم في التاريخ، حتى إن المعتصم يقول: إنه سهر ليالٍ طويلة ما أتاه النوم، وخاف أن يدخل عليه في بغداد، هذا الهامة الطامة، وقف في الشمال يرسل الكتائب ويقاتل.

فقال المعتصم: من يأتيني به وله ألف ألف درهم، وأكتب اسمه مع اسمي ويدعى له على المنابر.

من هذا البطل الذي يأتي به؟! فأرسل الإفشين بن قطلوبغا، وأصله تركي لكنه قائد مسلم مشهور، فأرسله فبقي يقاتله سنة، صيفاً وشتاءًَ وليلاً ونهاراً، فظفر به ثم قطع رأسه، فصلب المعتصم رأسه في سامراء حتى يقول البحتري: فجعلته علماً بـ سامراء.

ومدحه الخليفة ودعا له عدة جمع ثم أصدر المعتصم مرسوماً بألا يدعى له، فقد أخذ حاجته منه والحمد لله.

ومنهم: أبو مسلم الخراساني

وكان من الشجعان الكبار، وكان يقدم نفسه، وهو عاص خطير، حتى استفتي الإمام أحمد: هل نصلي في مسجده؟ قال: لا.

مسجد عاص.

أخذ أموال المساكين وبنى بها مسجداً كبيراً في خراسان، وكان يخطب يوم الجمعة وعليه عمامة سوداء، فقام أحد الناس -وليته ما قام- فقد أجرى دماء المسلمين، وقتل منهم القتلى، وأخذ أموالهم وأراضيهم، وهذا قام يلاحظ عليه ملاحظة، فقال له أبو مسلم: ماذا؟ -وكان فصيحاً- قال له الرجل: أتلبس السواد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس السواد؟ قال: كذبت، حدثني فلان عن فلان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، والحديث في مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعلى رأسه عمامة سوداء} يا غلام اضرب عنقه.

فقام الغلام فضرب عنقه.

هذا هو أبو مسلم الخراساني، أمره إلى الله، لكن عنده شجاعة متناهية، ما كان ينام الليل كان يتقلب فتقول له أمه: مالك؟ فيقول: همة تنطح الجبال.

حتى يقول فيه أحدهم:

همة تنطح الثريا وعزم نبوي يزعزع الأجبال

ولذلك نقل دولة بني أمية إلى بني العباس، كأنه نقلها من جيبه الأيمن إلا جيبه الأيسر، وفي الأخير، ذبحه أبو جعفر المنصور.

ومن شجاعة أهل الدنيا أن بعضهم يقاتل على أكياس الشعير التي تباع في الشاحنات إلى آخر النهار، ويحبس أسبوعين، ويقاتل على الغنم وعلى بيعه وعلى الفحم، ويقاتل بعضهم على الحبحب وعلى كل شيء، أما على الدين فلا.

والمؤمنون هم أشجع الناس، ولماذا كان المؤمنون أشجع الناس؟ لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١] ولأن ما عند الله خير من الدنيا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤] ولأنهم يحملون مبدأ، أما المنافق فليس عنده مبدأ، فالمنافق يجلس مع المتدين فيصبح متديناً، ويجلس مع شارب الخمر فيصبح شارب خمر، ويجلس مع المغني فيصبح مغنياً، يقول الله في المنافقين: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:٦٢] أنا أعرف بعض الناس إذا جلس معك أصبح ولياً، يسألك عن أحاديث رياض الصالحين، ويسألك عن ركعتين بعد صلاة الظهر، وعن صلاة الضحى متى تكون؟ والشارب هل يقص أم يحلق؟ وكيف يقصر الثوب؟ ويسأل مسائل دقيقة، ولكنه يظلم في أراضي المسلمين وفي أجسامهم وأعراضهم، ويظلم ظلماً عظيماً، وهذا لا ينفعه سؤاله ولا ورعه.

ولن المؤمنين يثقون من حفظ الله ورعايته، فإن الله يقول: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] ويقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥٢] ولأن العاقبة لهم ولا محالة، فإن الله جعل العاقبة والخاتمة والسمعة الحسنة ودرء الحوادث والأعراض لأوليائه، وجعل لهم النتيجة الطيبة في الدنيا والآخرة.

هذا ما للمؤمنين عند الله عز وجل إذا احتسبوا أنفسهم وكلامهم في ذات الله، وقام أحدهم يحمل مبدأه، وعلم أنه سوف يلقى الله عز وجل ملوماً إن لم يدع إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر على ما أصابه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:١٧].

إخوة الإيمان: هذا هو درس كيف تكون جباناً؟ ولكني أسأل الله أن نكون كلنا من الشجعان الذين يحملون أرواحهم على أكفهم، والذين لا يخشون إلا الله، ويقولون كلمة الحق، ويتقربون بدمائهم وأموالهم وأعراضهم في خدمة دينه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>